الجمعة، 13 ديسمبر 2019

كلسوس: من أشهر منتقدي المسيحية- ج4



سأناقش ثلاثة فقط من أهم أرائه النقدية اللاهوتية. أولاً: الادعاء المسيحي بأن الله جاء من السماء ليعيش على الأرض بين الناس. يصف كلسوس هذا الادعاء بأنه: ”الأكثر خزيًا ولسنا بحاجة إلى حُجة مطولة لدحضه.“ (ضد كلسوس 4: 2)؛ فالله ليس ذلك النوع من الكائنات الذي يتعرض للتغيير أو التبديل. ولا يمكن أن يتحول من نقاء وكمال الألوهة إلى حالة البشر المعيبة والناقصة: ”الله صالح وجميل وسعيد، ويحيا في أجمل حالة. فإذا نزل إلى البشر، لابد أن يعتريه تغيير، من الحالة الفضلى إلى ما هو أكثر بؤسًا... إن طبيعة الكائن الفاني فقط هي التي تتعرض للتغيير وإعادة التشكيل، لكن طبيعة الكائن الخالد تبقي على حالها دون تبديل. وبناءً على ذلك، لا يمكن لله أن يعتريه هذا التغيير.“ (ضد كلسوس 4: 14). لكن الغريب في هذا النقد أن المسيحيين أيضًا يدعون أنهم يؤمنون بأن الله كائن روحاني غير قابل للاستحالة أو التغيير، وأنه ”غير مخلوق، أزلي، غير مرئي، لا يتـألم، غير مدرك، غير محدود، يحيطه النور والجمال والروح، وقوة غير موصوفة.“[1] في واقع الأمر يسأل كلسوس: إذا كنتم تزعمون حقًا أنكم تؤمنون بنفس الإله الذي نؤمن به، فكيف تقولون إن الله اتخذ شكلاً بشريًا؟ كيف للإله، الذي بحسب التعريف لا يخضع للتغيير والتبديل، أن يعيش كإنسان؟
يسأل كلسوس: إذا سلَّمنا أن الله كلي القدرة وكلي العلم، ويحكم العالم من عرشه العلوي في السماوات ”فما هو الهدف من هذا التنازل من جانب الله؟ هل كان ليعلم ماذا يجري بين البشر؟“ (ضد كلسوس 4: 2) كذلك يضيف إذا كان الله كلي القدرة، فلماذا يحتاج إلى النزول إلى الأرض ليحقق إصلاحًا أخلاقيًا في الجنس البشري؟ ألم يكن قادرًا على فعل هذا ”بقدرته الإلهية“بدون هذا النزول (ضد كلسوس 4: 3)؟
يفترض هذا السؤال ضمنياً أن هناك سبباً قهرياً أجبر الله على التجسد، وهو بالنسبة للاهوت المسيحي مقدمة أو فرضية خاطئة وكل ما سوف يأتي بعدها هو خطأ بالتبعية.  فاللاهوت المسيحي يعلن بوضوح أن  الله قد تجسد بدافع حريته، يصف القديس إيريناؤس الخلق، تدبير التجسد بأنهم "في إتساق"، ويصف اللاهوتي توما الأكويني تدبير التجسد قائلاً: "فكان من المناسب أن كل شيء خُلق من خلال كلمة الله (مثلما يقول يوحنا 3:1 مثلاً)، لذلك أيضاً من خلاله، كمثل طريق لله القدير كل شيء سوف يُسترد، كما يُصلح الحرفي المنزل بنفس الطريقة التي بناه بها"، فالتجسد ليس حتمية على الله ولكن كما يراه اللاهوت المسيحي هو أمرا متسق، ومناسب وملائم لله الثالوث المُحب للبشر. وقد قد وضح أوريجانس سببين لتجسد الله، الأول ليرد الخروف الضال، والثاني ليعطي ملكوت الله للمسيحيين بدلاً من اليهود (ضد كلسوس3:4).[2] أما بشأن فكرة القدرة الإلهية، فيرد أوريجانوس: "ماذا عن حرية الإرداة؟" (ضد كلسوس 3:4)، ويوجه سؤالاً إلى كلسوس قائلاً "ألم يكن مُستطاعاً على الله بقوته الإلهية، أن يجعل البشر المحتاجين للإصلاح، [أن يصيروا] جيدين أو كاملين هناك وبذلك فلا يكون هناك وجوداً للشر من الأساس؟" (ضد كلسوس 3:4).

هذه الفكرة تقود كلسوس أيضًا إلى حجة أخرى تتكرر بعد ذلك في المجادلات مع الوثنيين على مدار القرون التالية. إذا أصرَّ المسيحيون على أن الله ظهر في شكل بشري في زمن محدد في التاريخ، فماذا حدث للأجيال التي لا حصر لها التي عاشت قبل يسوع؟ ”الآن فقط بعد طول كل هذا الزمان تذكّر الله أن يدين الجنس البشري؟ ألم يكن يهتم قبلاً؟“ (ضد كلسوس 4: 8)؟ كيف يهتم الله بمجموعة فقط من البشر يعيشون في زمن محدد في التاريخ؟ يرى كلسوس أن النظرة المسيحية تقدم إلهًا نزويًا اعتباطيًا يتصرف كما يحلو له بغض النظر عن مصلحة الخلائق كلها. ومن ثم يصل كلسوس إلى الاستنتاج بأن المسيحيين ”يثرثرون عن الله بدون توقير أو طهارة“، والغافلون فقط هم مَن ينجذبون إلى المعتقدات المسيحية (ضد كلسوس 4: 10) . أمّا مَن هم مثقفون بالأسئلة اللاهوتية والفلسفية يرون عدم معقولية العقيدة المسيحية.
لقد رد أوريجانوس على كلسوس قائلاً "لأن هناك أسباباً منطقية ومتلائمة للطرق المختلفة التي بها ترعى العناية الإلهية أرواح البشر، والتي لا يمكن التعبير عنها  لا شرحها بالتفصيل" (ضد كلسوس 8:4). قد يبدوا هذا الرد كما لو كان محاولة ماهرة للهروب من السؤال ولكن في الواقع هذا الرد يعبر عن إيمان أوريجانوس بان الله أمين للبشر أجمعين، فهو لا يسعى فقط أن يقدم إجابة تبدو لكلسوس كما لو كانت منطقية ولكنه يعلن إيمانه أيضاً بأن العناية الإلهية هي سرَ لن يستطيع الإنسان أن يسبر غوره بشكل كامل.
جدير بالذكر أن السؤال عن لماذا جاءت المسيحية في هذا الزقت بالذات، هي مسألة كانت مثارة من بدايات المسيحية، كما نرى في الرسالة إلى ديوجينيتس "لماذا لم يظهر هذا الشعب الجديد، بل قل هذا السلوك الجديد إلا في هذه الأيام فقط، وليس في الماضي؟"، في موضع آخر يستخدم أوريجانوس القدمية ضد كلسوس الذي قال بإن المسيحيين سرقوا فكرة الحياة الابدية وأفكار أخرى عن نشأة الكون من هوميروس وأفلاطون- لكن أوريجانوس في دفاعه قال إن كلسوس نسي أن موسى أقدم من ظهور الأبجدية نفسها. نفس الشيء عند ق كيرلس الكبير في رده على يوليان الجاهد يقول: "موسى، من ناحية التاريخ، يمتاز بالأقدمية الشاسعة. روى اقوم رواية عن خلق العالم،... اليونانيون ولدوا بعده بزمن مديد، وسرقوا تراثه لينسجوا منه نسيج أعمالهم" (ضد يوليان 1: 4) ويشرع ق كيرلس في إثبات ذلك من المؤرخين المشهورين.


[1] Athenagoras, Leg. pro Christ. 10.
[2] Oliver D. Crisp, Incarnation without the fall, Journal of reformed theology 10 (2016), P. 227, God sent his son, a contemporary Christology, Christoph cardinal Schonborn, p.16-17, The Trinitarian Christology of St Thomas Aquinas Dominic Lege , p. 71.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق