نقد كلسوس للعقيدة
المسيحية
لم يقرأ كلسوس
الكتابات المسيحية فحسب، لكنه فهم ما قرأه أيضًا. وعرف أن المسيحية نشأت كحركة
داخل اليهودية، وأن المسيحيين استمروا في استخدام الأسفار اليهودية المقدسة. وعرف
أن معظم اليهود لم يقبلوا هذه الحركة الجديدة، وأن علاقتها باليهودية كانت مثار
إحراج للمسيحيين. وكان على دراية بما ورد في الأناجيل عن حياة يسوع، وتعاليمه،
وصلبه، وموته. وأدرك أهمية القيامة في تعاليم المسيحية، وكان لديه بعض المعرفة
بالعبادة والممارسة المسيحية.
كما يبدو مرجحًا
أن كلسوس تعرّف على كتابات المدافعين الأوائل عن المسيحية، وخاصةً أعمال يوستين
الشهيد، الذي ظهرت دفاعاته قبل عشرين عامًا تقريبًا من كتابة كلسوس لكتابه ”العقيدة
الصحيحة“. يعتقد بعض الدارسين أن كلسوس كتب كتابه كرد على أعمال يوستين، وأن الشكل
الخاص الذي صاغ به حجته يرجع إلى معرفته بيوستين.[1] من
الواضح أن كلسوس استطاع أن يفرز ويرتب الكثير من الأمور التي سمعها وقرأها عن
المسيحيين حتى يركز على النقاط الأهم، والنقاط الأضعف من وجهة نظره في التعليم
المسيحي.
القراءة الأولى
لكتاب كلسوس ربما توحى، كما أوحت تعليقات جالينوس على العقيدة المسيحية، بأن
المسيحية لم تقدم الجديد، وأن تعاليمها تعكس ببساطة ما قاله الأسبقون ولكن بشكل
أقل تعقيدًا. قال كلسوس نفس الشيء عندما لاحظ أن الكثير من الأمور التي يعلّم بها
المسيحيون: ”كانت مشروحة بشكل أفضل عند اليونانين، الذين امتنعوا عن التصريح
بمزاعم مبالغ فيها، وعن التأكيد بأنها أُعلنت لهم بواسطة إله أو ابن إله.“ (ضد كلسوس 6: 1). كما يذكر كلسوس فيما بعد في كتابه
عددًا من التعاليم التي ينطبق عليها هذا الوصف، وعلى سبيل المثال، فكرة الخير
الأسمى (ضد كلسوس 6: 4-5)، وبعض الأفكار عن نشأة العالم (6: 49-50)، وأفكار عن
الخلود: ”الرجال الموحى لهم من الله في الأزمنة القديمة تعلموا عن حياة سعيدة
للأنفس المحظوظة. بعضهم دعوها جزيرة المطوبين، وآخرون دعوها حقول إليسيون؛[2]
لأنها كانت خالية من شرور العالم. لذلك يقول هوميروس: ’لكن الخالدين سيرسلونك إلى حقول
إيليسون، وإلى أطراف الأرض حيث الحياة سهلة للغاية‘. وأفلاطون، الذي يعتقد بخلود
النفس، يدعو بصراحة كبيرة أن هذه المنطقة التي تُرسل إليها النفس أرضًا،[3]
عندما يقول:...“ (ضد كلسوس 7: 28). لكن من الواضح من خلال القراءة المتمحصة لكتاب
كلسوس أنه أقر مثل جالينوس بأن المسيحية قدمت بعض التعاليم الدينية الجديدة التي
لا مثيل لها في مكان آخر، وهذه التعاليم كانت الهدف الأول لهجومه وجداله.
لقد كان رد أوريجانوس على هذه الفقرة في غاية الروعة وهو
يعبر عن عنصر هام جداً للمسيحية وهي أن هدفها هو "ربح الكل للحق" (ضد
كلسوس 1:6)؛ فهي ليست دعوة للنخبة أو "للاذكياء فقط بل ولكن للأغبياء
[أيضاً]، وأيضاً ليست لليونانيين فقط ولكن تشمل البرابرة أيضاً" (ضد كلسوس
1:6)، فتحول "الأكثر غباءً، و الفلاح الغير متعلم" (ضد كلسوس 1:6) هو
بالأمر "الحسن جداً" (ضد كلسوس 1:6)، ويقارن بين أسلوب الأنبياء، ويسوع
والرسل، وبين أسلوب أفلاطون. فأفلاطون كتب بأسلوب جميل ولكن للبعض فقط، أما
اسلوب الأنبياء، يسوع والتلاميذ فبجانب إحتواءه على الحق إلا أنه استطاع أن يكسب
الجماهير (ضد كلسوس 2:6). أخيراً يذكر أوريجانوس آخر جانب من حجته وهو جانب قوة
الله المصاحبة للكلمة، فلا تكفي أن تكون الكلمة حق ومُقنعة لكي تؤثر في حياة
البشر (ضد كلسوس 2:6)، و لكن يجب أن يعطي الله نعمة للمتكلم. فحتى لو تشابهت بعض
العقائد بين الفلاسفة اليونانيين والمسيحية، فهم لا يمتلكون نفس القوة ليكسبوا
الأنفس ولا لكي يؤكدوا على مصداقية تعاليمهم (ضد كلسوس 2:6).[4]
|
[2] هي جزيرة الخالدين
في الميثولوجيا اليونانية، بها حدائق غناء وخضراء وكثيرة الورود، ويجري فيها أنهار
ماء كالرحيق، ومن يشرب من مائها ينسى كل أنواع الهموم والعذاب. (المترجم)
[3] يرد العلامة
أوريجانوس على اتهام كلسوس بأن المسيحيين اقتبسوا فكرة الأرض الأخرى السماوية من
أفلاطون أو غيره بالقول إن كلسوس نسي أن موسى أقدم من ظهور الأبجدية اليونانية
نفسها. (المترجم)
[4] Celsus “on the True Doctrine: A
Discourse against the Christians”, P. 317, Translated by: R. Joseph Hoffmann.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق