كان كلسوس أول
ناقد يصف المسيح بأنه ساحر، ويتهم المسيحيين بممارسة السحر. ربما بدأ هذا الرأي
عند سوتينيوس Suetonius الذي وصف المسيحية بأنها ”خرافة جديدة ومجرمة
(maleficus)“. كلمة (maleficus) قد تعني ”ساحرة“، وإذا استخدمت كاسم فإنها تعني ساحر.[1]
إذا صح هذا الأمر، يكون سوتينيوس هو من ألقى بظلال ما سيصير تهمة شائعة فيما بعد.[2]
ومع ذلك، فكلسوس أكثر وضوحًا وصراحة: ”بالسحر كان يسوع قادرًا على عمل المعجزات
التي بدا أنه عملها.“ (ضد كلسوس 1: 6). كما إنه يقول إن ”المسيحيين حصلوا على
القوة التي يبدو أنهم يمتلكونها بنطق أسماء بعض الشياطين والتعاويذ.“ (ضد كلسوس 1:
6).
لقد عُرف عن يسوع أنه كان يقوم بآيات و عجائب. فبجانب
شهادة العهد الجديد المؤيدة لذلك، نجد شهادة محايدة من يوسيفوس حيث يقول
"في ذلك الوقت عاش يسوع، رجلاً حكيماً. فهو كان يقوم بأعمال مبهرة
..." (تاريخ اليهود 18: 63-64). و لكن يبقى السؤال الذي أدى إلى نزاع وهو
"مَن" أو "ما" هو مصدر هذه العجائب؟ في الأناجيل نجد هذا
النزاع بدأ أثناء خدمة يسوع المسيح نفسه، فالكتبه و الفريسيين لا ينكرون حقيقة
حدوث هذه الآيات، و لكنهم ينسبوها إلى بعلزبول (مرقس 22:3، متى 24:12)، على
الجانب الآخر يرد يسوع قائلاً أن هذه الآيات هي "بروح الله"
(متى28:12) أو "بأصبع الله" (لوقا 20:11). نجد يوستينوس الشهيد يكتب
في كتابه الحوار مع تريفو قائلاً: "فمسيحنا شفى... وأقام رجالاً من الموت...
وبأعماله دفع الناس في ذلك اليوم إلى الإعتراف به. على الرغم من ذلك فحينما رأوا
هذه الأمور أتت لتعبر [أمامهم]، قال الناس أن هذا عرض لفنون السحر، حتى أنهم
تجاسروا أن يقولوا أن يسوع هو ساحر ومخادع للناس" (الحوار 6:69-7) .
التلمود أيضًا –رغم أن شهادته متأخره نسبياً فهي ترجع للقرن الثاني الميلادي –
يُقر أيضاً بحقيقة المعجزات و لكنه يفسرها مثل كلسوس، فنقرأ في سنهدرين 43أ
"سيُرجم (يشو [يسوع] الناصري) لأنه مارس السحر فأغوى إسرائيل و ضلله".
يتضح من الشهادات السابقة أن هناك تقليد مبكر ومنتشر ينسب ليسوع أنه قام بعجائب
سواء كان مصدرها هو روح الله/ إصبع الله كما يقول هو عن نفسه، أو ببعلزبول كما
يقول الكتبة والفريسيين، أو بالسحر كما نجد عند يوستينوس، وكلسوس والتلمود
اليهودي، أو حتى بدون تحديد لمصدر هذه الآيات مثل يوسيفوس. ويُعلق العالم كريج
كينر على تفسير كلسوس والتلمود قائلاً: "العديد من تلك المصادر غير المسيحية
المتأخرة تنسب العجائب [التي قام بها يسوع] للسحر، وهو على الأرجح التفسير المناهض
للمسيحية الأقدم لظاهرة العجائب المسيحية". بالإضافة إلى ما سبق، فبسبب
كثرة وتنوع المصادر التي تتحدث عن معجزات يسوع المسيح، يعتقد غالبية العلماء
المتخصصين في دراسات "يسوع التاريخي" –بصرف النظر عن رؤيتهم الفلسفية
المختلفة- أن معاصرو يسوع رأوا فيه يسوع أنه شافٍ للأمراض ومُخرج للشياطين، وبذلك
فعلى الرغم من أن تفسير كلسس هو معادٍ للمسيحية إلا أن شهادته حفظت تقليدًا
مسيحيًا مبكرًا.[3]
|
كانت ممارسة
السحر جريمة في الأمبراطورية الرومانية، وكانت كلمة ساحر تعبّر عن سلوك استغلالي
مخزٍ. واجه أبوليوس Apuleius، وهو مؤلف رواية مثيرة بعنوان ”الحمار الذهبي“ (The Golden Ass)،[4]
تهمة ممارسة السحر. كان قد تزوج من أمرأة تُسمى Pudentilla كانت مخطوبة
لشخص آخر. وعند سمع أحد أقرباء الرجل الذي يُفترض أن يتزوج منها، اتهمه بأنه فاز
بحبها عن طريق استخدام التعاويذ والأدوية السحرية. وبالرغم أنه أُطلق سراحه فيما
بعد، لكنه أجبر على الوقوف أمام المحكمة والدفاع عن نفسه من هذه التهمة الكاذبة.
الكثير من
الأمور الواردة عن المسيح في الأناجيل تشابهت مع أمور يفعلها السحرة. على سبيل
المثال، في إنجيل يوحنا يُقال عن يسوع أنه شفى عيني رجل أعمى منذ ولادته بأن تفل
على الأرض، ثم صنع طينيًا من التفل، وطلى به عيني الأعمى (يو 9). بعض القصص صورت
يسوع وهو يطرد الأرواح الشريرة (انظر مر 1: 23، 34؛ 3: 11). بجانب هذه التشابهات
الواضحة مع أمور يفعلها السحرة، هناك نصوص أخرى في الأناجيل تتوازى بشكل واضح مع
قصص عن السحرة في البرديات السحرية اليونانية في ذلك الوقت مثل: تهدئة العواصف (مر
4: 35)، توفير الطعام بشكل معجزي (مر 6: 35)، أن يختفي الشخص عن الرؤية (يو 8:
59)، ومعرفة أفكار الآخرين (مر 2: 8).[5]
أختلف جزئياً مع هذه الفقرة. لأنها تُغفل السياق والإشارات
اليهودية الموجودة في قصص معجزات الرب يسوع المسيح. فمثلاً حادثة تهدئة العاصفة
الوارد ذكرها في (متى 23:8-27، مرقس 35:4-41 و 22:8-25)، نجد بها ستة عناصر كالتالي:
التلاميذ في المركب، الرياح والأمواج مرتفعة، التلاميذ خائفين، التلاميذ يصرخون
ليسوع لينقذهم، يسوع يُهدئ العاصفة، وأخيراً ساد هدوء عظيم. تتشابه هذه العناصر
الستة مع ستة عناصر موجودة في مزمور (23:107-30) ولكن مع اختلاف الشخصيات، نجد
أن هناك بحارة في السفينة، وهناك رياح وأمواج شديدة، و كل حكمة البحارة قد
اُبتلعت، وصرخ البحارة للرب، والرب هدأ العاصفة، وهدأت العاصفة. وبذلك نجد أن
كتاب الاناجيل صاغوا معجزة تهدئة العاصفة في نفس الشكل والإطار الخاص بإحدى مزامير
العهد القديم، والذي كان يتحدث على عمل يهوه مع البحارة، ويوضح العالم جون بي.
ماير قائلاً "باختصار، ما يقوم به يهوه لينقذ طاقم المركب في البحر في
مزمور 107، قام به يسوع لتلاميذه في بحر الجليل". أما بخصوص معرفة أفكار
الآخرين الواردة في (مرقس 8:2 ولوقا 22:5)، فالقصة لا تهدف أن تُشير أن يسوع هو
مثل السحرة ولكنها تعلن عن هوية يسوع، فيسوع المسيح لا يتوقف عند معرفة أفكار
الجموع كما أنه يغفر الخطايا أيضاً، وغفران الخطايا طبقاً للاهوت العبراني هو حق
حصري لله وحده، وهو ما نجده في في تعليق الكتبة والفريسيين حين قالوا "من
يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده" (لوقا 21:5، مرقس 7:2)، فصياغة كتاب
الأناجيل للآيات التي قام بها يسوع تُشير ضمنياً لهويته الإلهية وليس كما لو كان
ساحراً. هناك عنصر آخر يميز معجزات يسوع المسيح وهي ارتباطها بملكوت الله الذي
بشر به، فالآيات التي قام بها هي علامة عن حضور هذا الملكوت المنُتظر. بالإضافة
إلى ذلك نضيف حجة أوريجانوس والتي فيها يرفض المقارنة بين معجزات يسوع و السحرة
فيقول "كانوا من الممكن مقارنتهم
إذا كان يسوع قد قام بمعجزاته مثل السحرة فقط لُيظهر قواه. ولكن في
الواقع لا نجد أي ساحر يستخدم حيله ليدعوا المشاهدين إلى إصلاح أخلاقي، ولا
يعلمهم مستخدماً مخافة الله [ل]لناس الذي دُهشوا بما رأوه، ولا حاول أن يقنع
المتفرجين أن يحيوا كأناس سيدانون من الله" (ضد كلسوس 69:1)، و يوضح أن
السحرة لا يمتلكون القدرة و لا الرغبة في ذلك.[6]
|
لم تقدم
الأناجيل يسوع في شكل يشبه الساحر فحسب، أي كمَن يصنع الأعاجيب، لكن بعض المسيحيين
بدأوا في استخدام اسم المسيح في التعويذات والرقيات أيضًا. ويظهر هذا مثلاً في
ممارسة طرد الأرواح الشريرة باسم المسيح[7] . ويدعي كلسوس أنه على دراية ببعض الطوائف المسيحية التي
كانت تمارس السحر صراحة، ويزعم أنه شاهد كتبًا مسيحية ”تتضمن وصفات سحرية“ (ضد
كلسوس 6: 40 ).[8]
فضلاً عن ذلك، فإن المدافعين الأوائل عن المسيحية، قبل المدافعين الفلاسفة من
أمثال يوستين الشهيد وأثيناغوراس، قد جعلوا من معجزات المسيح في صدارة مجهوداتهم
لإقناع الناس بحقيقة المسيحية. كان كوادراتوس، وهو أحد المدافعين خلال حكم
الإمبراطور هادريان، يحثُّ الناس على الإيمان بالمسيح؛ لأن تأثير معجزاته مستمر
حتى ذلك الحين؛ فالناس يُشفون، ويقومون من الموت، وبعضهم -حسب كلامه- ”باقون حتى
يومنا هذا“ (يوسابيوس، التاريخ الكنسي 4: 3 : 2). وكان يُضاف إلى معجزات المسيح
معجزات الرسل، كما يشهد بذلك سفر أبوكريفي يُسمى ”أعمال
الرسل“. لذلك فإن رأي الجيل الجديد من المثقفين بأن يسوع كان بالأساس معلمًا
أخلاقيًا ذا طابع فلسفي لم يكن سائدًا في الكنيسة الأولى، وهو رأي وجد مقاومة من
عامة الشعب.
نادى المسيحيون
بأن معجزات المسيح تثبت أنه ابن الله. وكانت أسهل طريقة لكلسوس في تجاوبه مع هذا
الادعاء هو إنكار أن المسيح قد فعل العجائب المنسوبة له. لكنه لم يتخذ هذا الموقف.
كان كلسوس مستعدًا ليسلِّم بأن يسوع قد فعل الأمور التي يسجلها الأناجيل: ”معجزات
شفاء، أو قيامة، أو شبع جموع كثيرة بأرغفة قليلة، ويتبقي منها كسر كثيرة، أو أي
حكايات غريبة.. يحكيها عنه تلاميذه.“ (ضد كلسوس 1: 68).
لا يجادل كلسوس
في فكرة أن المسيح فعل هذه المعجزات، لكن ما أراد أن يعرفه هو بأي قوة استطاع أن
يجري هذه العجائب! من خلال قرائته للأناجيل عرف أن يسوع قضى بعض الوقت في مصر. ومن
هنا استنتج أن يسوع: ”نشأ خفية وأجر نفسه كعامل في مصر، وبعد أن جرب يده في بعض
القوى السحرية عاد من هناك، وبسبب هذه القوى لقب نفسه ابن الله“ (ضد كلسوس 1: 38). (الجدير بالذكر أن
الكتبة والفريسيين المُعاصرين ليسوع اتهموه بكل أنواع التهم، حتى أنهم نسبوا
إخراجه للشياطيين إلى بعلزبول. و لكننا لا نجد إتهام أو تلميح في العهد الجديد أن
يسوع الناصري قد تعلم السحر في مصر، ولا أنه استخدمه. وهو الأمر الذي يؤكده
جراهام تويفلي قائلاً "لم يتم إتهام
يسوع قط أنه ساحراً في أثناء حياته و معجزاته تختلف بوضوح عن السحر").[9]
هنا يثير كلسوس
فكرة ستصبح محورية في هجومه على المسيحية. هل كانت قدرة يسوع على عمل المعجزات
تعني أنه كان ابن الله، أم أنه ببساطة ساحر ذكي آخر مثل الآخرين الذين كان يمكن أن
تجدهم في مدن وقرى الأمبراطورية الرومانية؟ كانت الإجابة واضحة بالنسبة لكلسوس.
كان يسوع ينتمي إلى ”السحرة الذين يدعون بإنهم يجرون معجزات عجيبة... الذين من أجل
دريهمات قليلة يكشفون سحرهم المقدس في وسط الأسواق، ويخرجون الشياطين من الناس،
ويطردون الأمراض ويستحضرون أرواح الأبطال.“ (ضد كلسوس 1: 68).
لم يكن اتهام كلسوس للمسيح بأنه ساحر منفصلاً عن نقده العام الذي وجهه
للمسيحية.[10]
لقد تمنى أن يثبت أن المسيحيين ليس لهم أي أساس أو مبرر للادعاء بأن يسوع هو ابن
الله. فلم يكن الوحيد الذي فعل الأعاجيب، آخرون كان لديهم قوة مشابهة. لم يكن
الموضوع هو هل فعل يسوع معجزات أم لا، ولم يكن الأمر هل أتباعه باستخدام اسمه
فعلوا نفس الشيء أم لا. كانت القضية تتلخص في الآتي: هل هناك أي سبب، بناءً على
معجزات يسوع، أن يُدعى ابن الله؟ لكي تفهم كيف يتعامل كلسوس مع هذه المسألة لابد
أن نتجه الآن إلى شرح مفصل عن رأيه في التعليم المسيحي. (يُتبع)
[1] Morton Smith, Clement of Alexandria
and a Secret Gospel of Mark (Cambridge, 1973), 234; also Jesus the Magician
(NewYork, 1978), 45-67.
[2] See, for example, the writing of
Hierocles, governor of Bithynia, comparing Jesus to Apollonius of Tyana.
Hierocles' treatise is lost, but a good idea of the work can be gained from
Eusebius's response. Text and English translation in · F. C. Conybeare, Phihstratus:
The Life of Apollonius of Туana (Cambridge: Loeb Classical Library, 1969), 2:
484-605.
[3] The
Historical Jesus of the Gospels, Craig Keener, P. 67, 241, 525n. 43, The Gospel
and Jesus, Graham Staton, 2nd Edt., P. 149-150, 235.
يسوع التاريخي، محاضرات و مقالات نسقها و قدم
لها الأب أيوب شهوان، ص 213.
[4] هو لوكيوس أبوليوس
(125- 180 م)، كاتب وخطيب وفيلسوف وروائي ومسرحي، تحكي روايته "الحمار
الذهبي" عن شاب تحول إلى حمار كامل باستثناء عقله، وتحدث مغامرات كثيرة، حتى
تنجح الإلهه إيزيس المصرية في إعادته مرة أخرى إلى هيئته البشرية.
[6] The origin of divine Christology,
Andrew Ter Ern Loke, P.191, The Case for
Jesus, Brant Pitre, P. 125, Jesus and the thoughts of many hearts: implicit
Christology and Jesus’s Knowledge in the gospel of Luke, By Collin Blake
Bullard, P. 95.
[7] رد أوريجانوس على هذه الإتهامات قائلاً "وبالنظر إلى أننا
غير مشتبه بخصوص تلك الممارسات لأي مدى [حتى لو كان] ضئيل، فالمنطق لا يُطالبنا
بالرد على هذه الأمور" (39:6 ضد
كلسوس)،
فمن الواضح أن هذه التهمة تحمل الكثير من التحامل من كلسوس. بالإضافة إلى ذلك فأنا
لا أعتقد أن هذا توصيف د. روبرت لويس هو توصيف دقيق لموهبة إخراج الشياطين في
المسيحية المبكرة، فكما سبق و أشرنا لقد عُرف عن يسوع المسيح أنه أخرج الشاطيين، و
قد آمن الرسل و الكنيسة بعد ذلك أن هذه الموهبة قد اُعطيت لهم. فنلاحظ مثلاً في
طقس المعمودية هناك صلاة لجحد الشيطان يذكرها ق. ذهبي الفم، ق. باسيليوس، المراسيم
الرسولية، ق. كيرلس عمود الدين، ق. كبريانوس. و هناك أيضاً المسحة بزيت الأكسورسزم
أو زيت طرد الشيطان و الذي يذكرها ق. كيرلس الأورشاليمي قائلاً "بهذا الزيت
للاكسورسزم أي لإخراج الأرواح النجسة".
[8] يرد العلامة
أوريجانوس على هذا قائلاً بأنها من أسهل التهم في تفنيدها لأن جموع كثيرة بالخبرة
عاشوا مع المسيحيين ولم يسمعوا بهذا الكلام مطلقًا.
[9] Who Do My Opponents Say That I Am?: An
Investigation of the Accusations Against the Historical Jesus, P. 34 n.29.
[10] See
Eugene V. Gallagher, Divine Man or Magician? Celsus and Origen on Jesus, Society
of Biblical Literature, Dissertation Series, no, 64 (Chico, CA: Scholars Press,
1982).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق