حتى النصف
الأخير من القرن الثاني كان كل ما لدينا عن المواقف اليونانية والرومانية تجاه
المسيحية لا يتجاوز بضعة صفحات. ولكن مع حلول عام 170 م كتب فيلسوفٌ يوناني يُدعى
كلسوس كتابًا يستهدف المسيحيين خصيصًا. عنوان هذا الكتاب هو ”العقيدة الصحيحة“ (True Doctrine)، ولم يتبقَ لنا منه سوى شذرات، لكن هذه الشذرات كانت كافية بحيث
يمكننا أن نقول بكل ثقة بإمكانية استعادة الخطوط العامة لهذا الكتاب. بعد اثنتي
عشرة سنة من نشر هذا الكتاب، يكتب أوريجانوس، الفيلسوف واللاهوتي المسيحي الشهير،
ردًا موسعًا على كتاب كلسوس في ثماني كتب أو أجزاء. في هذا العمل يذكر أوريجانوس اقتباسات
كثيرة من كتاب كلسوس، وأحيانًا جُملة بعد جملة، قبل أن يقدّم رأيه الخاص. ومن خلال
جهود أجيال عديدة من الدارسين نستطيع اليوم أن نستعيد ليس فقط الأفكار الرئيسية
لكتاب كلسوس وإنما صياغته الفعلية.[2] وإذا قرأنا نصوص كلسوس كما اقتبسها أوريجانوس في سياقها
الأصلي -أعني ككتاب لفيلسوف وثني يعيش في القرن الثاني- وليس في ضوء النقد الذي
قدمه أوريجانوس، يمكننا أن نرى بعمق رأي المثقفين اليونانيين عن الحركة المسيحية
في النصف الأخير من القرن الثاني.
للأسف نحن لا
نعرف أي شيء عن كلسوس إلا من خلال المعلومات التي يمدنا بها أوريجانوس بالإضافة
إلى شذرات كتابه. حتى في أيام أوريجانوس لم يكن يُعرف عن كلسوس سوى أنه قد مات منذ
زمن طويل (ضد كلسوس، المقدمة، 4). في البداية ظنّ أوريجانوس أن كلسوس فيلسوف
أبيقوري، وفي بداية كتابه ”ضد كلسوس“ رأى أن كتاب كلسوس هو ثمرة الفكر الأبيقوري.
لكن بينما كان أوريجانوس يطوّر حُجته ضد كلسوس، نجده قد غيَّر هذا الرأي، وبدأ
يقول إن كلسوس لم يكن أبيقوريًا أبدًا، ولو كان كذلك في وقت سابق، لكنه بدَّل
أراءه لتتماهى مع المذهب الأفلاطوني. ربما أراد أوريجانوس أن ينعت كلسوس بلقب ”أبيقوري“
ليجعل مهمة نقده له أكثر سهولة. لقد كان لقب ”أبيقوري“ في المجتمع اليوناني-
الروماني مثل لقب ”شيوعي“ في الولايات المتحدة. كان يُنظر للأبيقوريين كملحدين
يزعزعون المجتمع. وكان في صالح أوريجانوس أن يصف منتقد المسيحية بلقب أبيقوري.
لكنّ كلسوس لم
يكن أبيقوريًا. الفحص الدقيق لشذرات كتابه يُظهر أنه لا يمكن أن يُحسب أو يُنسب
للمدارس الفلسفية الكبرى في زمانه.[3]
كان كلسوس أقرب ما يكون إلى الأفلاطونية، لكنَّ موقفه الفلسفي كان انتقائيًا. كان
كلسوس يعكس معتقدات وآراءً شعبوية لم تكن من السمات المميزة لأية طائفة أو مدرسة
فلسفية، وإنما يتشاركها المثقفون من ميول واتجاهات فلسفية ودينية مختلفة. أود أن
أصفه بالمثقف المحافظ؛ فهو يدعم القيم التقليدية ويدافع عن المعتقدات المقبولة من
نطاق واسع، لكنه بخلاف بليني الأصغر لم يكن سياسيًا أو موظفًا حكوميًا. فهو يقترب
من مؤسسات المجتمع وأعرافه كمثقف مستعد لتقديم حُجج فلسفية ودينية داعمة للنظام
السياسي والاجتماعي. لم تكن أفكاره الدينية والفلسفية مجرد قناعات نظرية، لكنها
كانت منسوجة ومقترنة بالمؤسسات، والأعراف الاجتماعية، والبنية السياسية للعالم
اليوناني-الروماني.
من الواضح أن
كلسوس كان يعرف المسيحية عن قرب، وكمجادل متمرس يقدّم وصفًا مفصلاً وملموسًا
للحركة المسيحية. وكان يبحث عن نقاط الضعف في المسيحية، وكان لديه ذكاء وطرافة في استغلال
هذه النقاط والسخرية منها. حتى وهو يسخر من المسيحيين، يعرف القارئ المثقف أن لديه
وجهة نظر. أكثر ملاحظاته طرافةً عن العبادة المسيحية نجدها في الكتاب السادس حيث
يناقش ولع المسيحيين بتبجيل أدوات صلب المسيح:
في كل مكان يتحدثون في كتاباتهم عن شجرة الحياة وقيامة
الجسد بالشجرة. يخالُ لي أن ذلك بسبب أن مُعلمهم صُلب على الصليب وكانت مهنته
نجارًا.[5]
لدرجة أنه لو كان قد أُلقي من فوق جرف، أو دُفع في حفرة، أو شُنق بحبل، أو لو كان
إسكافيًا أو بنّاءً، أو حدادًا، لكنّا سنجد جَرف الحياة فوق السموات، أو حُفرة
القيامة، أو حبل الخلود، أو الحجر المبارك، أو حديد الحب، أو الجلد المقدس. ألا
تخجل امرأة عجوز أن تحكي مثل هذه القصة لتهدهد طفلاً صغيرًا لينام؟ (ضد كلسوس 6:
34)[6].
لقد
قام أوريجانوس بالرد على هذه الفقرة، فأولا بدأ بمعنى "شجرة الحياة وقيامة الجسد
بالشجرة"، و قد أشار أن هناك سببين لعدم فهم كلسوس لهذه الجملة، أولاً هو
لا يفهم اللغة الرمزية في هذه الجملة،
فالجملة تتحدث عن الموت في آدم الذي جاء من خلال الشجرة المذكورة في كتابات موسى
النبي ويقابلها الحياة التي في المسيح من خلال الصليب (ضد كيلسوس 36:6)، و
ثانياً لأنه يسخر ولا يفهم عقيدة القيامة. و بعد ذلك يعلق على إدعاء كيلسوس أن
المسيحيين قد "اخترعوا شجرة الحياة ليستطيعوا أن يشيروا رمزيًا
للصليب" (ضد كيلسوس 37:6)، لكنه لا
يسترسل و لا يُفند ححج كيلسوس ويكتفي أن ينعت نقده "بعديم القيمة"
(ضد كيلسوس 37:6)، لعل السبب وراء هذا الرد المختصر هو أن أوريجانوس وجد حجة
كيلسوس لها طابع شخصي وليست موضوعية، ولعل ذلك يتضح من عبارته التالية "فهو
[كلسوس] سكب شره على الرجال، الذين حسب تصريحه يحاول أن يُرجعهم من ضلالهم"
ضد كيلسوس 37:6). آخيراً يُعلق على سخريته من العقائد المسيحية، قائلاً
"فالعقائد التي يؤمن بها أعضاء الكنيسة هي غير معلومة لكلسوس"، و لكن
فقط للذين كرسوا حياتهم كلها للبحث و فحص معاني الكتب المقدسة. (ضد كلسوس 37:6).
|
يستطيع
أوريجانوس في بعض الأحيان أن يكون ساخرًا مثل كلسوس (انظر ضد كلسوس 4: 67)، لكنه
فشل في إدراك روح الفكاهة في هذا النَّص. إن وصف كلسوس للحركة المسيحية غني ومتنوع
بعكس النقاد السابقين الذين نظروا للمسيحية من منظور أحادي. فهو يقدّم نقدًا
فلسفيًا مثقفًا ومبنيًا على دراسة جادة للكتابات والعقائد المسيحية. وفي مواضع
أخرى أيضًا يعتمد على كتابات متداولة بين المثقفين. تمثلت إحدى استراتيجياته في
مقارنة المسيحية بالحركات الدينية غير الشعبية والغربية التي تثير حفيظة الرومانيين.
على سبيل المثال، في مستهل كتابه يقارن المسيحيين ”بكهنة كوبيلي الشحاذين والعرافين،
وبُعبَّاد ميثرا[7]
وسبازيوس Sabazius، أو أيًا ما كان مما يمكن مقابلتهم، أشباح
هيكاتي Hecate، أو أي شيطان أو أنصاف آلهة أُخر.“ (ضد
كلسوس 1: 9). وفي موضع أخر يقارن العبادة المسيحية بممارسات خرافية للمصريين
وممارسات هؤلاء الذين ”في طقوس العربدة يقدّمون أشباحًا ومظاهر مروعة.“ (ضد كلسوس
3: 17، 4: 10). هذه التعليقات التي تذكرنا بتعليقات بليني الأصغر، تشير بأن الناس
كانوا لا يزالون ينظرون للحركة المسيحية كعبادة سرية غريبة تمارس الخرافات. يقدّم
لوسيان، وهو كاتب يوناني ساخر في نفس الحقبة تقريبًا، وصفًا مماثلاً في عمله ”موت
بروتيوس“[8]
(The Passing of Peregrinus)، الذي يتحدث عن ”تقاليد سحرية للمسيحيين“،
كان قد تعلمها بروتيوس نفسه، وهو دجال وساحر في القرن الثاني، من مصاحبة ”كهنتهم
وكتبتهم في فلسطين“ ويقصد هنا المسيحيين. يقول لوسيان: ”كان المسيحيون يعبدون
الإنسان الذي صُلب في فلسطين[9]؛
لأنه هو مَن أدخل هذه العبادة السرية الجديد في العالم.“[10]
ينتقد كلسوس
بشكل حاد الإيمان المسيحي البسيط غير المبرر عقلانيًا (fideism). ويظن
كلسوس أن النصوص الكتابية المسيحية تبرر تجنُب أو تحاشي الاحتكام للمنطق أو الجدل
العقلي. يقول كلسوس: ”بعض المسيحيين لا يريدون حتى أن يقدموا أو يحصلوا على سبب
لما يؤمنون به، ويستخدمون تعبيرات مثل ’لا تطرح أسئلة، فقط آمن‘، و ’إيمانك سيخلصك‘.
وآخرون يقتبسون من الرسول بولس: ’حكمة العالم شريرة، والجهالة شيء حسن‘“[11]
(انظر 1كو 1: 25-26؛ ضد كلسوس 1: 9).
يرد
أوريجانوس على هذا الإدعاء مؤكداً على أهمية الفلسفة فيقول "فلا يوجد مسار
آخر يجب أن يُتّبع إلا ذلك فقط" (ضد كلسوس 9:1)، و يرى أوريجانوس أن ذلك
موجود في تفسير الأقوال الغامضة في كتابات الرسل وفي أمثال الأناجيل وأماكن آخرى
لا تُعد ولا تُحصى، أو في الناموس الذي يحمل معنى رمزياً. ولكنه يوضح صعوبة هذا
المسعى، نتيجة للإحتيات الضرورية في الحياة عند البعض، والضعف عند البعض الآخر و
أخيراً قله الحماس عند البعض. على الجانب الآخر يحاول أوريجانوس تعليم هؤلاء
الذين لم يستطيعوا أن يتفرغوا للتفكير المنطقي (ضد كلسوس 10:1). بالإضافة إلى
ذلك، يرى أوريجانوس أن قبول هؤلاء للتغيير الأخلاقي هو أمر بالغ الأهمية، فهؤلاء
–على الرغم من عدم إطلاعهم الوفير في التفكير المنطقي- إلى أنهم تعلموا أن
يقوموا بالأمور الأخلاقية لأنهم سوف يحاسبون عما يفعلونه.
|
في نص مشابه
يشرح كلسوس فكرة مشابهة من خلال رسم كاريكاتوري لجهود المسيحيين من أجل تبشير
الآخرين بالإيمان المسيحي:
في البيوت الخاصة أيضًا نرى العاملين في الصوف،
والإسكافيين، والعاملين في الغسيل، وأكثر الريفيين أمية وسذاجة، الذين لا يجرؤن على
التفوه بأي شيء أمام رؤسائهم وبالأحرى سادتهم النبهاء. ولكن بمجرد أن يمسكوا
بالأطفال على انفراد ومعهم بعض النسوة الغبيات، فإنهم يتفوهون بعبارات صاعقة، على
سبيل المثال، أنهم لا يجب أن يلتفتوا لآبائهم أو معلميهم، ولابد أن يطيعوهم هم.
ويقولون عنهم أنهم يتكلمون هراءً، وليس لديهم فهم، وهم في الواقع لا يعرفون شيئًا
وغير قادرين على فعل أي شيء حسن، لكنهم مأسورون بلغو تافه. ويقولون إنهم وحدهم
يعرفون الطريق الصحيح للحياة، وإذا صدقهم الأطفال، سيصيرون سعداء، وسيجعلون بيوتهم
سعيدة أيضًا. (ضد كلسوس 3: 55).
يرد أوريجانوس على إدعاء كلسوس موضحاً أنه لا يوجد عيب
في أن المسيحيين يصمتون أمام أحد الأباء يُعارض بشده الأخلاق الحسنة، وذلك هو ما
كان ليقوم به كلسوس نفسه، فهو نفسه كان
ينقل أسرار الفلسفة إلى الشباب الصغير والأطفال حتى لو كان الأب يرى أن الفلسفة
هي عديمة القيمة و عقيمة (ضد كلسوس 58:3)، ويضيف أن حتى لو كان الأهل سيئيين، كان كلسوس
لينتهز الفرصة ليعلم عقائد الفلسفة للشباب الصغير (ضد كلسوس 58:3)، و يضيف أيضاً
أوريجانوس أنه لا يمنع الشباب من الإستماع للفلاسفة ولا من التدريب الفلسفي ولكن
بعد التدرب على التعليم العام والفلسفة يقود الشباب إلى "إرتفاعٍ
أعلى" (ضد كسوس 58:3)، و هو "عقائد المسيحيين" (ضد كلسوس 58:3) و
التي تكشف "الحقائق الأعلى و الأكثر سمواً، مثبتاً و مُظهراً أن هذه
الفلسفة [المسيحية] قد عُلمت عن طريق أنبياء الله ورسل يسوع" (ضد كلسوس 58:3).
|
[1]
This article is translated from Robert Louis Wilken, The Christians
as the Romans Saw Them, Yale University, 1984, ch. 5, pp. 94- 117.
[2]
See, Clesus on the True Doctrine: A Discourse against the Christians, P.
44-45, Translated by: R. Joseph Hoffmann.
[3]
The most perceptive and thorough analysis of Celsus's True Doctrine is
Carl Andresen, Logos und Nomos. Die Polemik desKelsus wider das Christentum (Berlin,
1955), Citations of Celsus's True Doctrine from Origen's Contra
Celsum, ed. Marcel Borret, SJ. Origine. Contre Celse, Sources
«Chretiennes (Paris', 1967- ). Translation by Henry Chadwick, Origen: Contra
Celsum (Cambridge, 1953).
[5]
الجدير بالذكر أن اوريجانوس في رده على كلسوس قال إنه لم يُذكر
في أي من الأناجيل التي تعترف بها الكنيسة أن المسيح كان نجارًا بينما لدينا مرقس
6: 3 تقول: ”أليس هذا هو النجار ابن مريم؟“، لكن
يبدو أن النص الذي كان في يديه يؤيد قراءة متى 13: 55 التي تقول: ”أليس هذا ابن
النجار؟“ ناسبةً مهنة النجارة إلى القديس يوسف النجار وليس المسيح. يحتاج الأمر
إلى دراسة تحقيق النص الذي استخدمه أوريجانوس حتى نقدر أن نميز مدى صواب رد
العلامة أوريجانوس. (المترجم)
[8]
اسمه بريجرينوس بروتيوس، وهو فيلسوف كلبي يوناني، عاش لفترة مع
المسيحيين في فلسطين، ثم طرد من بينهم، وعاش كفيلسوف كلبي. يُشتهر بانتحاره بعد أن
قدم خطبة تجنيزه.
[9]
و كتب لوسيان في موضع آخر قائلاً "فمشرّعهم الأول [يسوع]
أقنعهم أنهم إخوة بعضهم البعض، بعد إنتهكوا كل شيء بإنكارهم الآلهه
اليونانية و عبدوا السوفسطائي المصلوب نفسه و عاشوا تحت قوانينه" (Peregrinus 13). تعتبر هذه الفقرات شهادة
واضحة على أن المسيحيين منذ وقت مبكر عُرفوا بعبادتهم ليسوع المسيح المصلوب و ذلك
قبل الصياغات الخريستولوجية اللاحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق