بيحكي كريستوفر هول في كتابه
(Learning Theology with Church Fathers) أنه وجد أن كتير من الطلبة بتوعه
بيعانوا من تجارب سيئة في بيوتهم، وبيحكي قصة لفتاة معينة اسمها مثلاً ”سوزان“ واللي كان أبوها بيغتصبها، فكيف تتجاوب ”سوزان“ مع فكرة أكَّد عليها ق أثناسيوس في
جداله مع الأريوسيين، ألا وهي أن أفضل مصطلحات تعبر عن الله هو الآب، مش ”غير
الحادث/ أو غير الصائر/ أو غير المخلوق“ (agentos) زي ما كان الأريوسيين عايزين.[1]
ركز بقى علشان الكلام ده متوازن
جدًا.. على عكس الأطروحات اللي بنسمعها، واللي بتروح يمين قوي أو شمال قوي. الأول
بالنسبة ل ”سوزان“ اللي عبرت عن صراعها تجاه الأمر ده بأنها قالت إنها كانت محصورة
بين خيارين: إما تموت أو تنكر وجود الله. لأنها لو قالت إن الله موجود هتلاقي أبوها
في وش هذا الله الآب. ولو اختارت تنكر الله هتتحرر من أبوها فعلاً، لكن هتخسر
الملاذ الآمن وأعمق حب هي نفسها بتبحث عنه بكل كيانها، واللي مش ممكن تلاقيه غير في الله. صراع
صعب فعلاً.
لكن يالا بينا نرجع بالزمن للقرن
الرابع، هنلاقي ق أثناسيوس بيصر في جداله مع الأريوسيين إن أفضل وصف للعلاقة بين
الأقنوم الأول والثاني، هو الاستعانة بنموذج عائلي، وهو العلاقة بين الآب والابن. بالطبع
وبالتأكيد ق أثناسيوس بيقول إن هذا التشبيه بينطبق في جوانب معينة، ولا ينطبق في
جوانب أخرى. وأن فعلاً اللغة غير قادرة على التعبير بشكل كافي عن الحقيقة الإلهية.
ولكن كريستوفر هول بيقول بس اللغة والتشبيه ده بالتحديد بيعبر (جزئيًا) عن الحقيقة
الإلهية. وأن لو في إمكان ق أثناسيوس كان فضَّل الصمت وعبادة الله في انبهار، لكن
ق أثناسيوس وق كيرلس وكل الآباء لم يصمتوا. لماذا؟ لأن فصيل آخر قرر يوصف ربنا بأوصاف
غير متوافقة مع إعلانه عن ذاته في الكتاب المقدس. وبالتالي الصمت في هذه الحالة لن
يكون أفضل اختيار.
وبالتالي مش كل حاجة نلجأ للاهوت الأبوفاتي/ السلبي. ق غريغوريوس النزيانزي بعد أن حذر من أن الكلام في اللاهوت خطير جدًا، و أنه ”ليس لكل إنسان أن يتفلسف في شأن الله“[2] لكنه يقول بعدها بسطور قليلة ”لستُ أمانع الذكر الدائم لله، بل الجدل في موضوع الله، ولا أمانع الجدل على أنه كفر بل على أنه تطفل“. ثم يأتي النزيانزي في الخطبة التالية (28) ويزعج راحتنا بالتأكيد على عدم إدراك الله في مجده، لكنه مع ذلك يقول ”هيا بنا إلى الكلام عن الله“،[3] وهذا يعني أن عدم إدراك الله، وعجز اللغة، ليس معناه أن نخرس ولا نتكلم عن الله. وحسنًا يتحدث جان دانيلو عن أن المبالغة في عدم إمكانية معرفة الله تؤدي إلى اللأدرية أو الإلحاد.. كما أن المبالغة في إمكانية معرفة الله تؤدي إلى العقلانية أو وحدة الوجود (pantheism) .. ويقول ”إنه بالفعل لا نستطيع أن نقول أي شيء عن الله، وكذلك نستطيع أن نقول أشياءً لا حصر لها عن الله“.[4] وهذه هي المفارقة أو البارادوكس. ق كيرلس الأورشليمي ليه تشبيهات جميلة في الموضوع ده وبيقول: ”ربَّ معترض يقول: إذا كانت الطبيعة الإلهية لا يمكن إدراكها، فلماذا تتحدث عنها؟! فهل لأني لا أستطيع أن أشرب النهر كله، ألا يمكنني أن آخذ منه قدر حاجتي؟“. ونفس الشيء بيقول أقدر أبوص للشمس على قدي، وأقدر أدخل حديقة مليانة ثمار آكل منها على قدي.
وفي النهاية حين أراد الله أن يعلن لنا
عن ذاته، تحدث، واستخدم اللغة، وحين أوحى لكتبة الكتاب المقدس كتبوا عنه باللغة. إذا
كما أن اللغة ليست شاملة في تعبيرها عن الله، إلا أنها ليست عديمة النفع تمامًا، بل
إنها تحمل الحقيقة جزئيًا، وإلا فقدنا الثقة في كل ما قيل عن الله وتعاملاته. في رأيي
هذا هو التوازن. وأن فكرة التمييز بين الله في ذاته، والله في تدبيره، لا يُقصد
منها ألا يعكس تدبير الله ولو جزءًا صحيحًا عن ذاته.
نعود إلى كريستوفر هول وقصة ”سوزان“. في البداية يشرح أن
ق أثناسيوس رفض اقتراح الأريوسيين، ورفض استبدال تعبير الآب بتعبير ”غير الحادث/ أو
الصائر“. لأنه وفقًا للقديس أثناسيوس فإن لقب ”agentos“: ”هذا
اللقب غير مستمد من الكتب المقدسة... أما لقب الآب فهو لقب بسيط مستمد من الكتاب
المقدس“.[5]
ثم يشرح في النقاط التالية[6] الفرق
بين مضامين كلا اللقبين:
غير الحادث/ غير الصائر/ أو الخالق |
الآب في علاقته بالابن |
هذا التسمية تخص علاقة الله بخليقته. |
هذه التسمية تخص الله في علاقته بابنه. |
الخليقة خارج طبيعة الله. |
الابن هو مولود الآب من جوهره. |
الله ليس بحاجة إلى أي خليقة سواء كانت أزلية أو
موجودة خارج الزمن، لأنه كائن كامل غير ناقص. |
الله لم يكن في أي وقت مجدبًا أو عقيمًا. بل يلد الابن
أزليًا، لأنه من جوهره. |
نستطيع أن نصف الله بأنه الخالق، حتى إذا لم يخلق بعد.
لأنه يخلقها بإرادته. |
لا يمكن أن نسمي الله ”أبًا“ إلا إذا كان له ”ابن“ أزلي
في وحدة جوهرية معه. |
الخلاصة: ليس معنى أن هناك قصور في اللغة أن نهمل اللغة
التي نقرأها في الكتاب المقدس. ليس معنى أن اللغة قاصرة، أنها لا توصِّل أي قدر من
الحقيقة الإلهية، وإلا ما كان هناك أي داعٍ لها. ولنفترض مثلاً أن الكثير من الآباء
اغتصبوا أبناءهم، اعذروني على المبالغة، هل سنتوقف عن التعبير عن الله بوصفه ”أبًا“.
نشكر الله أنه لا يزال هناك عدد من الآباء الذين يوصلون معنى الحب والحماية
والقيادة إلى آخره من المعاني الجميلة.
يتخيل كريستوفر هول الحوار التالي بين ق أثناسيوس
والفتاة ضحية اغتصاب أبيها ”سوزان“ في الفقرة التالية: ”كنتُ أود أن أظل صامتًا
وأسبِّح السر والعجب الإلهي متعبدًا له. لكن للأسف بدأ بعض المعلمين في التحدث عن
هذا السر بطريقة تهدد رسالة الإنجيل بشكل خطير. كيف لي أن أبقى صامتًا بينما بدأ أريوس
يعلِّم أن الابن هو مجرد مخلوق في مرتبة سامية؟ هل يستطيع مخلوق أن يخلصنا من
الخطية؟ يا سوزان، هل يستطيع مخلوق أن يخلصك...؟ لا أبدًا. نعم، الصمت الموقر
والعبادة المنبهرة هي بالأحرى جدًا الاستجابة اللائقة تجاه عظمة الله وسره. لكن يأتي
وقت لابد فيه من التكلم لعلنا نرسم إطارًا حول السر نفسه. وهذا ما حاولت أن أفعله.
لكن هل تعرفين يا سوزان أن الآب الذي أقدمه لكِ لديه كل ما كنتِ تتمنينه في أبيكِ
البشري، بل وأكثر جدًا. فقد اختار أن يظهر محبته فأرسل ابنه إلى عالم وجعكِ
ومعاناتكِ ليفتدي العالم. لكنه ما كان ليقدر أن يفعل هذا إذا لم يكن بالحقيقة هو
الآب والابن والروح القدس“.[8]
على نفس المنوال أيها الأحباء، إذا أردنا أن نتمثَّل
بروح الآباء وتعاليمهم. هل بسبب قصور في خبراتنا البشرية نرفض ما أعلنه الله عن
نفسه؟! لقد عبر الكتاب المقدس والآباء عن أن الآب أرسل ابنه ليخلص العالم، فهل
نقول هذا فصل بين الأقانيم؟! وأن الآب بذل ابنه، فهل نقول إن الله سادي مغرم
بتعذيب ابنه؟ وأن الله يدين ويعاقب، فهل نقول إن الله تفوق على الوالدين في إيذاء
الأطفال؟ هذه حُجج واهية، لا تثبت أمام النظر بجدية إلى ما أعلنه الله عن نفسه في
الكتاب المقدس، واستخدمه الآباء بحكمة أيضًا. ولنأخذ من ق أثناسيوس كلامه عن أن
بعض الكلام مستمد ليس من الكتاب المقدس بل من الفلسفة اليونانية. فهل نستطيع
التمييز؟
[1] Christopher Hall, Learning Theology with Church Fathers, p. 45-
51.
[2] ق غريغوريوس اللاهوتي، الخطب اللاهوتية، عظة 27:
3، 4.
[3] نفس المرجع السابق، عظة 28: 1.
[4] Jean
Daniélou, God and the Ways of Knowing, p. 57.
[5] ق أثناسيوس، ضد الأريوسيين،
مقالة 1: 34.
[6] اختصرت بشدة في ترجمة هذا
الجدول.
[7] نفس المرجع السابق.
[8] مرجع سابق، ص 51.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق