السبت، 11 سبتمبر 2021

نقطة اتفاق: كفارة البدلية العقابية في الردود الأرثوذكسية على البروتستانتية في القرن السادس عشر والسابع عشر

 


بقلم الأب: جوشوا سكوبنج

ترجمة/ د. إيليا بولس

إن ردود الأرثوذكسية على الإصلاح، سواء كانت على اللوثرية أو الكالفينية، تتحفظ وتتعارض مع العديد من المواقف البروتستانتية الأساسية، ولكن نقد كفارة البدلية العقابية ليس من بين تلك الاعتراضات. في الواقع، كتب البطريرك إرميا الثاني إلى اللوثريين يحثهم على تأمل وجهة النظر الأرثوذكسية للكفارة كما يلي:

قد يرى المرء قاطع طريق أو مجرم يُعاقب، والملك نفسه يعطي ابنه الحبيب، الوحيد المولود، والشرعي، الذي لم يكن كهذا (المجرم)، ليتم إعدامه، وينقل الذنب من الرجل الشرير إلى الابن من أجل إنقاذ المجرم المدان وتخليصه من السمعة السيئة.[1]

ما سبق ذكره من البطريرك، بعد أن اقتبس من عظة القديس يوحنا الذهبي الفم على كورنثوس الثانية، هو أحد أقدم التشبيهات وأكثرها شيوعًا لكفارة البدلية العقابية. نرى فيه شخصًا يُعاقب بشكل عادل وفقًا لقانون الملك، ولكن بدلاً من هلاكه النهائي، يضع الملك بدلاً من ذلك المجرم ابنه البريء، لينال ذنب الرجل المدان ويُعاقب مكانه من أجل إنقاذه. من الواضح أن هذا مثال توضيحي على كفارة البدلية العقابية، حيث يضع الأب ابنه على الصليب، مكان المجرم الملعون، لكي يخضع لعقوبة ذلك المجرم العادل، ومن أجل إطلاق سراحه. وتابع البطريرك:

إذا، بعد هذه الأشياء، حصل الابن على مكانة كبيرة بعد أن أنقذ [الجاني]، ثم تعرض للإهانة في مجده الذي لا يوصف من قبل الشخص الذي عوقب نيابة عنه، أفلن يفضل هذا الأخير أن يموت ألف مرة، إذا كان لديه أي ذكاء، بدلاً من أن يبدو أنه مسؤول عن مثل هذا الجحود الكبير؟[2]

لا يكتفي البطريرك إرميا بأنه لا ينأى بنفسه عن كفارة البدلية العقابية فحسب، بل إنه يطرحها صراحة بمصطلحات الخلاص والعقاب نيابة عن المجرم. من الواضح أن هذه كفارة نيابية، وقانوني وبالتالي قضائية، وهي بدلية؛ لأنه يحل مكان المجرم ويخضع لعقوبة المجرم نفسه. عوقب ابن الله بالعقاب العادل للخطاة، واقفًا طواعية في مكان المحكوم عليهم، بدافع الحب، ولكي يفديهم. فبدلاً من دحض ما يسمى بالمفهوم البروتستانتي لكفارة البدلية العقابية، يقدمها البطريرك على أنها وجهة نظر أرثوذكسية بكونها متجذرة في النظام الذبائحي للعهد القديم، وفقًا لوجهة النظر الأرثوذكسية المقدمة إلى اللوثريين:

ذبح الحيوانات والأواني الذهبية والفضية قدمها القدماء لله. من الواضح أن جسد المسيح يشمل كليهما. لانه ذُبح لاجل مجد الآب.[3]

ما سبق لا يؤكد فقط أن موت المسيح يجب أن يُفهم من منظور الذبيحة القانونية والبدلية عن الخطيئة، وبالتالي فهي عقابية بطبيعتها، بل يتم تقديمها أيضًا في سياق تفسير الإفخارستيا. وبهذه الطريقة، فإن نظام الذبائح في العهد القديم هو الذي يوفر إطارًا لمعنى المناولة المقدسة، وبالتالي تُفهم الشركة المقدسة نفسها من منظور كفارة البدلية العقابية. المسيح هو الحمل الذبيحي ”المكرس لله منذ البدء. لقد كان قربانًا له لأنه المولود الوحيد، ولأن الخبز تحول إلى جسد المسيح“.[4] يتم تحويل الخبز إلى جسد البديل العقابي للإنسان الساقط.

بالنسبة للبطريرك، هذه المسألة غير مثيرة للجدل بين الأرثوذكس واللوثريين، وعلى الرغم من مقالتين إضافيتين تم فيهما التأكيد على نقاط الخلاف ومناقشتها بإسهاب، فإن مسألة كون المسيح بديلاً عقابياً لم يتم ذكرها، ولم يتم اعتبارها أبدًا كنقطة خلافية. علاوة على ذلك، فإن هذه المقالات هي التي يُعتمد عليها وتُستوعب كجزء من اعتراف دوثيسيوس Dositheus كما تم التأكيد عليه في مجمع أورشليم (1672). مرة أخرى، كفارة البدلية العقابية لم تكن محل خلاف، وفي المرسوم الثامن يُفترض ضمنيًا (المسيح كوسيط) كجزء من الفهم الأرثوذكسي للكفارة:

بإعطائه نفسه فدية عن الكل من خلال دمه، حقق المصالحة بين الله والإنسان حيث يهتم بخاصته، فهو شفيع وكفارة عن خطايانا.(Decree 8).

مرة أخرى، في ضوء تعاليم المصلحين المعروفة، يؤكد دوثيسيوس أن المسيح هو كفارة لخطايانا، وأنه قدم نفسه ذبيحة، وأنه بدمه صنع مصالحة بين الله والإنسان. هذه كلها لغة البدلية العقابية، وفي ضوء وعيه بالمحادثات السابقة للبطريرك إرميا، لا يكتفي  دوثيسيوس بعدم  إبعاد الأرثوذكسية عن كفارة البدلية العقابية فحسب، بل يواصل تقديمها على أنها معيارية. يؤكد  دوثيسيوس أن القربان المقدس نفسه، بكونه المسيح الجسد والدم، هو ذبيحة حقيقية واسترضائية تُقدم لجميع الأرثوذكس“ (Decree 22).

 بعبارة أخرى ، على الرغم من عدم الإيحاء بأن الإفخارستيا هي ذبيحة ”ثانية“ أو ”تكرارية“ للمسيح، يجب أن تُفهم ذبيحة الإفخارستيا من منظور هذا النوع من الذبيحة الذي يسترضي غضب الله العادل ضد الخطيئة. وهكذا يظهر مرة أخرى أن الجانب القانوني والذبائحي لموت المسيح يُنادى به بصفة أساسية ككفارة البدلية العقابية، ويتم دمجه في الفهم الأرثوذكسي للتناول المقدس نفسه.

في وقت لاحق ، أكد بيتر موجيلا Mogila في القرن السابع عشر مرة أخرى كفارة البدلية العقابية كجزء من الفهم الأرثوذكسي للكفارة. من إجابته على السؤال 24: إنه يدعو المسيح كاهنًا، لأنه قدم نفسه لله وللآب: قائلاً، الذي بالروح الأبدي قدم نفسه لله بلا عيب. إذن قُدم المسيح مرة ليحمل خطايا الكثيرين. بعبارة أخرى، حمل المسيح خطايانا. لم يحمل الموت فقط، بل الخطايا. وقد قدم نفسه ذبيحة نقية عن تلك الخطايا وفقًا للمنطق الشرعي لنظام الذبيحة في العهد القديم، وهو نظام عقابي وبدلي. ومرة أخرى يوضح العلاقة مع القربان المقدس في السؤال 107، إذ يجيب:

ثمار هذا السر هي:  أولاً ، تذكار آلام وموت المسيح. حيث كان يتألم، ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل معاصينا: كما يقول الكتاب المقدس: "فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ."(1 كو 11: 26) ثانياً: هذا السر استرضاء أو كفارة لله عن خطايانا“.

وبهذه الطريقة ترتبط الإفخارستيا ارتباطًا وثيقًا بـكفارة البدلية العقابية. بل إن الكفارة والاسترضاء جُعلا مترادفين. أخيرًا، على الرغم من أنه اقتباس أطول، ردًا على السؤال 47، أجاب موجيلا مرة أخرى بوضوح بمصطلحات في إطار كفارة البدلية العقابية:

أن موت المسيح كان أكثر تميزًا وذو فوائد أعظم بكثير مما يمكن أن يكون موت جميع البشر: لهذه الأسباب الخاصة. أولاً ، بسبب العبء الثقيل لخطايانا، كما قال النبي (إشعياء 53: 4)، فقد حمل أحزاننا وتحمل أوجاعنا، ومع ذلك فقد حسبناه مصابًا ومضروبًا من الله ومذلولاً. ولكنه جُرح لأجل معاصينا، وقد سُحق لأجل آثامنا. وأيضًا النبي إرميا، متحدثًا بشخص المسيح (مراثي أرميا 12:1 )، أما إليكم، يا جميع عابري الطريق؟ تطلعوا وانظروا ما إذا كان هناك أي حزن مثل حزني الذي حدث لي. ثانيًا، لأنه على الصليب تمم وظيفته الكهنوتية، مقدمًا نفسه لله وللآب من أجل فداء البشرية: كما يتحدث الرسول عنه (تيموثاوس الأولى 6: 6)، الذي أعطى نفسه فدية عن الجميع. ومرة أخرى (أفسس 5: 2)، أحبنا المسيح، وأسلم نفسه من أجلنا، قربانًا وذبيحة لله، لرائحة طيبة. وأيضًا في مكان آخر (رومية 5: 8)، وبينما كنا بعد خطاة، مات المسيح من أجلنا. ثالثًا، لأنه على الصليب أكمل المصالحة التي أجراها بين الله والإنسان. كما أعلن الرسول للتو (كولوسي 1:20 و 2:14)، أن يصالح كل الأشياء لنفسه، بعد أن صنع الصلح بدم صليبه. مسح الصك المكتوب الذي كان ضدنا؛ الذي كان ضدنا. وأخذه من طريقنا وسمّره على الصليب.[5]

 في الختام، لا يقتصر الأمر على أن ردود الفعل الأرثوذكسية في القرن السادس عشر على البروتستانتية لا تنأى بنفسها عن البدلية العقابية، بل تدمجها بشكل إيجابي كجزء طبيعي من التعليم الأرثوذكسي حول الكفارة. من الواضح أيضًا أن بيتر موجيلا في القرن السابع عشر حافظ على هذا الفهم الأرثوذكسي في نفس حقبة الجدل مع البروتستانت. على الرغم من أنه في نفس التاريخ الذي كان متوقعاً أن يُطلب فيه إنكار البدلية العقابية، إلا أننا نجد أنه تم تأكيدها والحفاظ عليها من قبل البطريرك إرميا والبطريرك دوسيثيوس والمتروبوليت بيتر موجيلا. في ضوء هذا والدراسات السابقة، فقد ثبت بشكل قاطع أن البدلية العقابية أمر طبيعي في الأرثوذكسية، تاريخيًا، لاهوتيًا، وسرائرياً. وبالتالي فإن ما هو غير طبيعي هو المحاولة المعاصرة في محوها من ذاكرة المسيحيين الأرثوذكس وتصويرها على أنها تطور غريب وحديث وغير أورثوذكسي. ولا شيء أبعد من هذا عن الحقيقة، وعلى هذا النحو فإن الهجوم على البدلية العقابية هو هجوم ضد الفهم الأرثوذكسي للإنجيل.

(هذا المقال مترجم عن مدونة الأب جوشوا سكوبنج، الذي خدم في كنيسة All Saints للروم الأرثوذكس بولاية بنسلفانيا، وخريج معهد سانت فلاديمير اللاهوتي:

https://godlightangels.blogspot.com/2020/02/a-point-of-agreement-penal.html



[1] Patriarch Jeremiah II, Augsburg and Constantinople, First Exchange, pg 41.

[2]  هذا الاقتباس من ترجمة د سعيد حكيم هو كالتالي: ” فلو أن ملكًا قد رأى سارقًا ومجرمًا وهو يُعذَّب، ثم وضع ابنه الوحيد لكي يبذل نفسه عنه، وحوَّل العقوبة عن المجرم ونقلها إلى الابن الذي لم يكن مجرمًا، ليس فقط عقوبة الموت، بل والخطية أيضًا، وذلك حتى يُخلص المدان، وينقذه مما التصق به من صفة سيئة، وبعد كل هذا رفعه إلى أعلى مرتبة. ثم بعد هذه المحبة.. حدث أن أهان الملك الذي أحسن إليه، ألا يُفضل أن يموت آلاف المرات.. على أن يصبح مذنبًا بكل هذا الجحود؟“( يوحنا ذهبي الفم، تفسير كورنثوس الثانية، ترجمة د سعيد حكيم، عظة 11، المركز الأرثوذكسي، ص191- 193).

[3] Patriarch Jeremiah II, Augsburg and Constantinople, First Exchange, pg 66.

[4] Ibid.

[5] Peter Mogila,The Orthodox Confession of The Catholic and Apostolic Eastern Church, Question 47, P.43, 44.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق