الأربعاء، 1 سبتمبر 2021

”الخطية الجدية“ ليوحنا رومانيدس

 

قراءة في كتاب ”الخطية الجدية“ ليوحنا رومانيدس


بيانات الكتاب: (يقع الكتاب في حدود 190 صفحة من القطع المتوسط، وترجمة الأب أنطوان ملكي والأخ وائل مكرم. وهو ترجمة لرسالة الدكتوراة للأب جون رومانيدس، وإصدار دار نشر رسالتنا).

الكلام عن الطاقات غير المخلوقة

بشكل عام، يعتبر الكتاب مرجعًا هامًا وكلاسيكيًا في موضوع الخطية الجدية، بسبب نقل الكثيرين عنه، وتأثر الكثيرين به. هتلاحظ إن في أجزاء كتير من الكتاب ده ملهاش علاقة بموضوع الخطية الجدية، بل إن الاشتباك في الجدل حوالين الخطية الأصلية، أو التبحر في عرض رأي ورأي مقابل، مش هتلاقيه في هذا الكتاب. كمان في بدايات الكتاب هتلاحظ لغة التمييز بين جوهر الله وطاقاته بشكل واضح جدًا، وفي رأيي في نوع من التكلُّف. زي عبارات مثل "محبة الله غير المخلوقة"، و"عناية الله غير المخلوقة"، و"قوة الله غير الخلوقة". وده طبعًا تطور كبير حصل في الكنيسة الرومية بفضل جريجوري بالاماس بعد القرن الثالث عشر. لكن أود أن أذكر رأي الأب متى المسكين في هذا الأمر واللي بيعتبره بدعة بشكل صريح:[1]


الكلام عن سقوط الإنسان

الفكرة المتكررة في هذا الكتاب تتمحور حول السؤال التالي: من يتحمَّل مسؤولية السقوط أكثر: الإنسان أم إبليس؟ لأن رومانيدس بيذكر بشكل متكرر إن وواضح إن مسؤولية السقوط تقع في المقام الأول على الشيطان وليس على الإنسان. فيقول: "الآباء لم يترددوا أن يعلنوا باستمرار أن الشيطان هو سبب الشرور في العالم" (ص 25)، ويقول ايضًا "الشيطان هو السبب الرئيسي للعصيان والخطية والموت" (ص 68)، وأيضًا "الشيطان هو السبب الأولي للخطية" (ص 69)، وأيضًا "الاعتقاد بأن... الشيطان موسوسًا فقط للأفكار الشريرة.. هو اعتقاد خاطئ تمامًا" (ص70)، وايضًا "إبليس هو السبب الرئيسي للفساد" (ص 71)، وأيضًا "الموت من عمل الشيطان" (ص 76)، وأيضًا "إبليس هو المتهم بصنع الفساد" (ص 153)، وأيضًا "أسباب الفساد والموت هي الشيطان أولاً وقبل كل شيء" (ص159)، وكذلك يقول "أسباب الموت كانت إبليس أولاً وقبل كل شيء، وثانيًا الإنسان" (ص 163).

لكن إحقاقًا للحق، رومانيدس بيقتصر في دراسته في هذا الكتاب إلى حقبة مبكرة تنتهي عند إيرنياؤس (+200م). وبالفعل وجدت كريستوفر هال صاحب كتاب (Learning Theology with Church Fthers) بيقول إن ق إيريناؤس تحديدًا بيشوف إن مسؤولية السقوط تقع على الشيطان أكثر منها على الإنسان.[2] وأساس الفكرة دي إن إيريناؤس بيعتبر إن آدم وحواء كانا طفلين وخُدعا من إبليس. لذلك رومانيدس في كتاب "الخطية الجدية" بيقول إنه "بحسب إيريناؤس وثيؤفيلوس، اعتدى إبليس على الإنسانين الأولين حين كانا في الطفولة وجُرحا ظلمًا... العصيان ناتج عن خداع الحية الواضح" (ص 156).

وهنا عندي سؤالين مهمين: إيه معنى كلمة "طفل" اللي وصف بيها ق إيريناؤس آدم وحواء؟ خصوصًا إنه بيقول في الفصل اللي بعديها في (ضد الهرطقات 4: 39) إن الإنسان "نال معرفة الخير والشر... عرف الإنسان أن الطاعة خير كما عرف شر العصيان" وكانت له "معرفة بالنوعين"؟ يعني إزاي ربنا يدي وصايا لإنسان قاصر، غير مؤهل، لا يستوعب!! ثم يعاقبه بعد ذلك، كيف يكون هذا؟ وإحنا صحيح بنقول في القداس "الموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس"، لكن كمان بنقول "عرفتني شوكة الموت.. فأكلت بإرادتي. وتركت ناموسك عني برأيي، وتكاسلت عن وصاياك. أنا اختطفت لي قضية الموت". يعني الكلام بيقول إن آدم وحواء كانا يدركان ماذا يفعلان، ولم يكونا أطفالاً فاقدين للأهلية. فهل الأمر كما يقول رومانيدس أنهما خُدعا "ظلمًا"؟ ولو ظُلم فعلاً وهو "ضحية" كما يقول رومانيدس في ص 69، فهل من المنطقي إن ربنا يكمِّل عليه ويطرده من الفردوس؟ السؤال الثاني: مع مدى اتفاق رأي إيريناؤس مع الآباء اللاحقين أثناسيوس وكيرلس؟ وهل هناك إجماع آبائي حول هذه الفكرة. طالما هرينا في فروة أغسطينوس علشان خالف الإجماع الآبائي، فلماذا نعتبر رأي إيريناؤس هنا هو المعيار الصحيح للأرثوذكسية؟!

ريفيو مهم لكتاب "الخطية الجدية"

في كتاب مهم اسمه (Orthodox Readings of Augustine) و ده تحرير اثنين من أساتذة اللاهوت في قسم الدراسات الشرقية الأورثوذكسية في جامعة فوردهام...  إيه تقيمهم لكتاب "الخطية الجدية" لرومانيدس؟ كالآتي:

"إن دراسة رومانيدس تتسم بالسطحية والمفارقة التاريخية. على سبيل المثال، برغم وجود براهين نصية من الكتاب المقدس ومن الكُتّاب الشرقيين، إلا أن عمل رومانيدس لا يشتبك إلا قليلاً جدًا مع الكتابات الفعلية لأغسطينوس. كذلك الحواشي نادرًا ما تشير إلى نصوص بعينها من أعمال أغسطينوس، وعندما توجد فهي تعاني من الأخطاء المتكررة أو الإسناد الخاطئ.  كذلك فإن رومانيدس مثل فلوروفسكي يقرأ فكر أغسطينوس عن النعمة وحرية الإرادة من خلال عدسة التمييز البلاماسي في القرن الرابع عشر بين جوهر الله وطاقاته (مش بمنظور الجدل البيلاجي اللي كان بيحاربه أغسطينوس.. وده معنى المفارقة التاريخية)".

لكن الكاتبين بيقولوا ملاحظة مهمة جدًا...  "إنه قبل حركة الإصلاح، ارتبطت تحفظات الشرقيين تجاه لاهوت أغسطينوس بشكل كامل بإمكانية تصديقه على عقيدة الانبثاق من الآب والابن. لكن هذه التحفظات لم تؤدِ إلى إدانة الرجل أو أعماله في الحقبة البيزنطية، ولم تمنع من استخدام كتاباته بمجرد ترجمتها"، "وأن النقد الصريح لأغطسينوس على يد اللاهوتيين اليونانيين الأررثوذكس قد ظهر أولاً في أوائل القرن التاسع عشر في روسيا، ثم في أواخر خمسينيات القرن العشرين بين اللاهوتيين الشرقيين".

اتهامات بالجملة

وفي واقع الأمر يذكر رومانيدس اتهامات بالجملة للغرب ولأغسطينوس، بشكل يصل إلى حد التعصب، وبالفعل دون مناقشة نصوص أغسطينوس نفسه. ومن أمثلة ذلك: يذكر رومانيدس في ص 56 إنه "في الغرب بعد أوغسطين ساد التعليم بأن الشيطان والموت ليسا سوى أدوات الغضب الإلهي". ويذكر في ص 58 إن "الشيطان والموت هما أدوات للعدالة الإلهية"، ويذكر في ص 64 إن "وجهة النظر القائلة بأن الشيطان وسيلة للغضب الإلهي (والذي هو تمامًا تعاليم اللاهوت الغربي بعد أغسطين)... يقف مباشرة ضد الشهادات الكتابية والآبائية"، وكذلك في ص 74 "إن رؤية اللاهوتيين الغربيين أن إبليس ليس سوى وسيلة للغضب الإلهي لا أساس لها تمامًا". لكن بالبحث تبين أن فكرة الشيطان كوسيلة لإنفاذ الغضب الإلهي ليس مصدرها أوغسطين بل أوريجانوس. فهو يقول ذلك في تفسيره لرومية الكتاب السابع فصل 1 فقرة 3 . كما هو موضح في الصورتين المرفقتين:




يعني عايز أقول.. ماشي في فروقات بين الشرق والغرب، بعضها حتمي الحدوث. زي ما بيقول أحد اللاهوتيين.. ثقافة بتعتبر أعظم منجزاتها في مجال القانون.. لازم هيتأثر شرحها للعقيدة بالطابع القانوني.. اللي بيجد ليه جذور في الكتاب المقدس (هكذا أزعم).. يعني مش من فراغ. لكن في النقطة السابقة يكون الشرق هو أساس الفكرة وليس الغرب، وهذا مؤكد لأن أغسطينوس وجيروم وروفينوس وأمبروسيوس كلهم تعلموا من أوريجانوس.

من الاتهمات الجزافية لأغسطينوس أيضًا أنه دعى إلى "سعي أناني للسعادة الذاتية"، وكررها رومانيدس أكثر من مرة في كتابه. لكن حتى كتب الفلسفة لغير المسيحيين لم يقولوا بذلك أبدًا. فلقد استطاع أغسطينوس أن يوظف مصطلح قال به أرسطو في "الأخلاق النيقوميدية" يسمى "اليوديمونيا" (Eudemonia) وهي حالة أقرب إلى الرضا والاكتفاء الذاتي التي يصلها الإنسان بالتأمل الفلسفي". لكن أغسطينوس حتى وإن تبنى هذا المفهوم، إلا أنه تحرك به نحو "الاتحاد بالله" الذي هو مبتغى الإنسان وذروة سعيه إلى السعادة.[3] من ناحية أخرى يقول أغسطينوس في كتابه "عن الحياة السعيدة" صراحةً "الله هو الحياة السعيدة للنفس". وفي كتابه "التعليم المسيحي" يقول إننا يجب أن نحب النفس والقريب (في الله)، وأن التمتع هو في الله وحده "الثالوث غير المتغير". ويقول في كتابه الاعترافات "أين أجد من يدفعك إلى قلبي لتسكره فأنسى آلامي وأعانقك يا خيري الأوحد؟". وهو صاحب واحدة من أشهر العبارات وهي "لأنك خلقتنا يا الله لأجل ذاتك، ولن تعرف قلوبنا الراحة، حتى تجد الراحة فيك". فكيف يدعو أغسطينوس لسعي أناني للسعادة الذاتية بمعزل عن الله.

اتهام آخر لأغسطينوس والغرب إذ يقول رومانيدس في ص 97 "ظل الآباء الروميون مخلصين للفرضيات الكتابية عن الحرية والخلق.... ورفضوا الوجود السرمدي غير المصنوع الذي تقدمه المُثل الأفلاطونية، وتمسكوا بالمفهوم الكتابي لخالق حقيقي من العدم. خلال عملية الخلق، لم يكن الله خاضعًا لمُثل مفترض أنها غير مصنوعة، فالله لا يحتاج لذلك". والسؤال هنا: هل أغسطينوس قال بعكس ذلك؟ هل قال إن الله كان خاضعًا لمُثل أفلاطونية وهو يخلق منها.. خضوعًا ضروريًا؟ أم خلق الله كل شيء من العدم خلقًا حرًا؟ ما هو رأي أغسطينوس؟ لنذهب إلى كوبلستون في موسوعته "تاريخ الفلسفة" لنراه يقول إن أغسطينوس "يقر بوضوح بفكرة الخلق الحر من العدم، وذلك ليؤكد على علو الخالق واعتماد الكون كله على قدرته".[4] ويشرح قبلها بوضوح إن النظرية الشائعة عند أفلوطين وهي "الفيض"  emanation وهي التي تجعل الله تحت "ضرورة طبيعية"، لكن أغسطينوس كان يعتقد بغير ذلك.

يحارب أغسطينوس بعض الاعتقادات الفلسفية في زمانه عن وجود مادة غير مصورة خُلقت منها كل الأشياء، لكنه يقول "حتى لو أن الكون قد خُلق من مادة لا صورة لها، فإن هذه المادة قد خُلقت من العدم".[5] أما الصور أو المثل الأفلاطونية فقد اعتبرها أغسطينوس أنها محتواة داخل عقل الله (اللوغوس)؛ لأنه كان يعتقد أن الابن هو حكمة الله، وقد وجد هذا في افتتاحية إنجيل يوحنا "كل شيء به كان". هذه الأفكار لم يكن لها وجود أنطولوجي خارج الله- كما أعتقد أفلاطون- وإنما هي المشورة الأزلية داخل عقل الله.. فالله لا يتطلع إلى خارج ذاته لكيما يخلق وفق نموذج خارجي، بل هي مشورته وأحكامة الأزلية. يقول أغسطينوس في كتابه (83 Different Questions) إن "المثل هي الصور النموذجية، والجواهر الثابتة غير المتغيرة للأشياء، غير مخلوقة، ولكنها موجودة أزليًا بلا تغيير داخل العقل الإلهي". باختصار حاول أغسطينوس "تنصير" الفلسفة الأفلاطونية دون التخلي عن عقيدة الكتاب المقدس عن الخلق الحر من العدم.

اتهام آخر لأغسطينوس والغرب أن رومانيدس قال إنه الآباء الشرقيين نسبوا الموت لإبليس لكن "جميع الأنظمة اللاهوتية الغربية تؤمن أن الموت هو من صنع الله" ص 95، ويكرر في ص 178 "الغرب يعتقد عمومًا أن الموت من الله". ولو أنت قارئ عادي هتتخض من الجملة دي خصوصًا إنها فيها تعميم ساحق "جميع الأنظمة"! (sweep generalization). وهي عبارات تدعو إلى الحيرة، هل آباء الكنيسة الغربيين قالوا إن الله هو المسؤول عن دخول الموت إلى العالم! شيء غريب! لكنك تكتشف أنه يقصد إن الغرب يرى أن الله "حكم" أو "عاقب" بالموت، ولا يقصد أن الله المسؤول عن دخول الموت إلى العالم. لأن رومانيدس بالطبع يؤمن إن الموت نتيجة وليس عقاب. وفي رغبة من رومانيدس أن يزيل التهمة عن الله، لأن الله فعلاً ليس سبب الموت. لكن رومانيدس يُخرج الأمر برمته بعيدًا عن الله، ربنا ملوش دعوة خالص باللي حصل! لا من بعيد ولا من قريب! وبهذا يحرم الله حقه في أن يكون ديانًا للشر. ولنلجأ إلى ق أثناسيوس الرسولي في كتابه العمدة "تجسد الكلمة" إذ يقول: "كان من المستحيل التهرب من حكم الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي" (تجسد الكلمة 6: 2). بيقولك الله هو الذي وضع حكم الموت! ومرة أخرى يقول ق أثناسيوس "لا يتفق مع صدق الله الذي يقتضي أن يكون الله أمينًا من جهة حكم الموت الذي وضعه" (تجسد الكلمة 7: 1). مرة أخرة يقول حكم الموت الذي وضعه! بقدرة قادر عندما نقول إن الله حكم بالموت، بصفته ديانًا، يتحول هذا إلى تهمة أننا نقول إن الموت من صُنع الله. كيف يكون هذا؟

أما الحديث عن "الخطية الجدية" فلنا فيه كلام في وقت آخر.    



[1] الأب متى المسكين، ق اثناسيوس الرسولي: حقبة مضيئة في تاريخ مصر- صفحة ٤٤٨

[2] Christopher Hall, Learning Theology with Church Fathers, p. 128.

[3] John Miller,The Reception of Aristotle's Ethics.

[4]  كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الثاني القسم الأول ص 106.

[5] De ver. Relig 18, 35- 6.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق