مقدمة
الكنيسة هي
مستشفى كما وصفها ق يوحنا الفم. لذلك على الكنيسة أن تقوم بدورها في خدمة أعضائها
في حالات المرض والموت. فيما يلي استعراض للفكر اللاهوتي عن المرض والموت ورؤية
الكنيسة في التعامل معهما كما يظهر في القراءات الليتورجية لسر مسحة المرضى بحسب
طقس الكنيسة القبطية.
صلاة القنديل
تمثل مسحة
المرضى أحد الأسرار السبعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويصلي الكاهن فيها 7
صلوات على المرضى ويدهنهم بالزيت المقدس. ويسمى هذا الطقس بصلاة القنديل؛ لأن
الكاهن يصنع 7 فتايل من القطن في إناء من الزيت. ويشعل واحدة فواحدة في بداية كل
صلاة. مارس الرسل هذا السر كما يظهر في إنجيل مرقس: ”فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ
أَنْ يَتُوبُوا. وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ
فَشَفَوْهُمْ“ (مر6: 12- 13). كذلك ينصح الرسول يعقوب بممارسة هذا السر كنسيًا
كما سنرى في القراءات الطقسية لهذا السر. خلال أسبوع البصخة تمارس الكنيسة هذا
السر وتمسح الشعب كله في ما يُسمى ”جمعة ختام الصوم“.
الصلاة الأولى
يشعل الكاهن
الفتيلة الأولى ويبدأ بصلاة الشكر، وهذه عادة الكنيسة أن تبدأ بالشكر في كل مناسبة
حتى المرض أو الموت. كما يصلي الكاهن قائلاً: ”يا طبيب المرضى.. المنقذ من
الشدائد.. يا ميناء الخلاص من حركات الأمواج وهياجها. اصنع رحمة مع المتضايقين
بالأمراض..“. ثم يقرأ الكاهن سرًا طالبًا من الله أن ”يقدس هذا الزيت ليكون
لكل الذين يُمسحون به شفاء لهم من أدناس الروح وآلام الجسد“. ثم يُقرأ النص
الشهير من رسالة يعقوب 5: 10- 20 التي يقول فيها ”صَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي
(أو تخلص) الْمَرِيضَ، وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ
لَهْ“ (ع15).
تذكرنا الكنيسة
هنا بوجود ”علاقة أنطولوجية تربط المرض والمعاناة والموت بالخطية“.[1]
لكن كلام الرسول يعقوب يعدنا بأمرين في الآية السابقة: أن نخلص وأن نقام. بعض
المفسرين يذكرون أن الفعل (σώσει) الوارد في
الآية يُستخدم بمعنى ”اسخاتولوجي عن الخلاص في الآيام الأخيرة“.[2]
التشديد هنا على معنى سوتيريولوجي واسخاتولوجي اكثر منه شفاء جسماني. أمّا ”الوعد
الثاني فهو يتضمن معنيين. الرب يقيمه من سرير مرضه. وإذا لم يكن هذا في مشيئته،
فهو وعد بأن يقيم أولاده من الموت“.[3] هذا
الأمر يتأكد في كلام الكاهن كالتالي: ”يا مَن أقام ابن الأرملة وابنة يايرس من
الموت، وأقام لعازر بعد موته بأربعة أيام.. أقم عبدك هذا من موت الخطية. وإن أمرت
بإقامته إلى زمان آخر، فامنحه مساعدة ومعونة لكي يرضيك في كل أيام حياته“. ثم
يُستحسن أن يقال سرًا ”وإن أمرت أن تأخذ نفسه، ليكن هذا بيد ملائكة نورانيين
يخلصونه من شياطين الظلمة. انقله إلى فردوس الفرح ليكون مع جميع القديسين“.
يجب ملاحظة أن
الكنيسة لا تدين المريض بربطها بين المرض والخطية.. لكنها تصلي من أجل شفاء الجسد
والروح. الفصل من الإنجيل في الصلاة الأولى هو عن مريض بركة بيت حسدا (يو 5: 1-7)
الذي يقول له يسوع ”هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا،
لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ“ (ع14). الكنيسة هنا لا تستثنى احتمالية أن
يكون المرض نتيجة خطية ما. بعض الخطايا لها علاقة مباشرة مع المرض، على سبيل
المثال الإفراط في تناول الكحوليات، أو العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج تزيد من
احتمالية الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا (STDs).
يقول اللاهوتي
جون مايندروف ”إن الرابطة بين الخطية والمرض يبدو قويًا جدًا بحيث يظهر كما لو
يوجد علاقة سببية بين الاثنيين. وبالتالي قد يظن المريض أن خطيته هي التي سببت له
مرضه. لكن مرة أخرى، الحقيقة ليست بهذه السهولة“.[4]
الخطية بوصفها سقوط آدم وحواء هي علة كل المآسي التي تحل علينا، لكن ”عندما
يخطئ الناس مجددًا، فهم يساهمون باستمرارية خطية آدم وتبعاتها“.[5]
الصلاة الثانية
في هذه الصلاة
تقرأ الكنيسة من رومية 15: 1- 17 لتشجع شعبها على إظهار الصبر والاحتمال، كما تشجع
الأقوياء على ”أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ
أَنْفُسَنَا“ (ع1). كما تشجع الكنيسة عائلة المريض بأن يحتملوه لا أن يدينوه.
ثم يُقرأ الإنجيل من لوقا 19: 1- 10 عن زيارة المسيح لبيت زكا العشار. تذكرنا
الكنيسة بهذا الإنجيل بأن شفاء النفوس أهم بكثير، وأن افتقاد المسيح للمريض هو أن
يخلصه. ثم يتضرع الكاهن إلى الرب بأن يطهر المرض من كل خطاياه ”اغفر له غلطاته،
إن كان بالفعل أو بالقول أو بالفكر. طهره من كل خطية، واحفظه زمان حياته سالكًا في
وصاياك، لكي لا نفرح به العدو دفعة أخرى“.
الصلاة الثالثة
نقرأ فيها من
1كو12: 18- 13: 8 عن المحبة معتبرين إياها أعظم من عمل المعجزات وموهبة الشفاء ذاتها.
ثم نقرأ الإنجيل من مت10: 1- 8 عن السلطان المعطى للتلاميذ بأن ”عَلَى
أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ“
(ع1). ثم يتضرع الكاهن لله قائلاً: ”كما سمعت لحزقيا عن ضيقة نفسه في ساعة موته
ولم تعرض عن طلبته، كذلك أيضًا اسمعني أنا عبدك المسكين في هذه الساعة، وارحم عبدك
(فلان)، وإن كانت خطاياه قد كثرت جدًا..“. لاحظ أنه في الصلوة الأخيرة يمارس
الكاهن السلطان الذي أعطاه الله لتلاميذه، ولاحظ أيضًا أن امتلاك هذا السلطان لا
يدعو للتفاخر؛ إذ يدعو الكاهن نفسه "عبدك المسكين"!
الصلاة الرابعة
نقرأ من رو8:
14- 21 عن التمجيد الذي ينتظرنا عندما نشارك المسيح في آلامه: ”إِنْ كُنَّا
نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ“ (ع17). ثم نقرأ من
الإنجيل من لوقا 10: 1- 9 عن خدمة السبعين رسول بما في ذلك خدمة شفاء المرضى (انظر
ع9). ثم يصلي الكاهن ”أيها الرب المؤدب الشافي“، وكلمة ”المؤدب“ عادة
ما تُفهم على أنها ”المعاقب“. لكن الكلمة في اليونانية هي مشتقة من كلمة paideia بالمعنى
الإيجابي لها عن التعليم والتربية، ومنها كلمة pedagogy أو علوم
التربية. يقول لارشيه ”يجب أن نذكر أن مصطلح pedagogy يشتق من
الكلمة اليونانية paidagogia الذي فضلاً عن التعليم فهو يشير إلى الرعاية
التي تُقدم للشخص المريض. ق إكليمندس السكندري يسمي المسيح بالمربي pedagogos بمعنى الذي يعلم ويوجه، لكن هو أيضًا من يطبب المرضى“. بالطبع عندما نقرأ في كتاب المربي لإكليمندس سنجد
تأكيد على حق المربي (أو الله) في أن يعاقب ويدين. وبالتالي المصطلح يشمل العقوبة
والرعاية في آن واحد. هذا يتأكد من كلام الكاهن؛ إذ يقول ”القريب في المعونة“،
”والمتأني في العقاب“.
الصلاة الخامسة
نقرأ من غل2:
16- 20 وفيها تذكرنا الكنيسة بأن كل واحد في آلامه ومعاناته يقدر أن يقول ”مَعَ
الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ“
(ع20). ثم نقرأ من يو14: 1- 19 عن الروح القدس المعزي الذي سيسكن فينا إلى الأبد.
ثم يتضرع الكاهن للمسيح الطبيب الشافي. الكثير من آباء الكنيسة صوروا المسيح
بالطبيب، وبعضهم اثبتوا عظمته بالمقارنة باسكلابيوس إله الشفاء لدى الإغريق
والرومان. مرة أخرى لا يُستثنى شفاء الجسد هنا.
الصلاة السادسة
نقرأ من كولوسي
3: 12- 17 حيث ننصح بأن نتحمل أحدنا الآخر، ونغفر لأحدنا الآخر، ونظهر الشفقة
والرأفة ”لْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ“، وأهم شيء ”كُونُوا
شَاكِرِينَ“ (ع15). ثم نقرأ من لوقا 7: 36- 50 عن قصة المرأة الخاطئة التي
غسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ودهنتهما بالطيب. ثم يتضرع الكاهن قائلاً:
”انهضه لينطق بالمجد بمحبة البشر لابنك الوحيد“. نلاحظ أنه تُصلى في هذه
الصلاة أوشية القرابين- وما أجمل قربان هذه المرأة.. توبتها.. دموعها.. طيبها!
الصلاة السابعة
نقرأ من أف6:
10-18 عن وصية أن نحمل سلاح الله الكامل لنحفظ أنفسنا من هجمات إبليس. وأن نصلي كل
حين ثم نقرأ من مت6: 14- 18 حيث ينصحنا بأن نغفر كما غفر لنا ابونا السماوي. ثم
يطلب الكاهن من أجل الشفاء ”اشفِ عبدك (فلان) من أمراضه الجسدية وامنحه حياة
مستقيمة ليمجد عظمتك ويشكر إحسانك“. ثم يمسح الكاهن المريض والحاضرين بالزيت
المقدس.
خاتمة
من خلال هذا
الاستعراض السريع لقراءت سر مسحة المرضى نستطيع أن نرى أن الكنيسة تؤمن وتعلم
شعبها بأن هناك علاقة انطولوجية بين الخطية والمرض والموت. لذلك فإن الكنيسة تشجع
المريض والشعب كله على التوبة، والغفران للآخرين، وتطهير النفس- في مناسبة المرض-
من كل أنواع الآثام. كما أن الكنيسة لا ترى المرض كعقوبة، لكن كفرصة لحمل نير
الصليب ومشاركة المسيح مع آلامه لنتمجد معه في السماء.
[1] Jean-Claude
Larchet, The Theology of Illness (Crestwood, N.Y: St. Vladimir’s
Seminary Press, 2002), 51.
[2] Martin, R. P, Word Biblical
Commentary: James. Word Biblical Commentary, (Dallas: Word, Incorporated),
p. 201 (electronic edition).
[3] Holloway, G., James & Jude.
The College press NIV commentary. (Joplin, Mo.: College Press Pub.),
(electronic edition)
[4] Paul Meyendorff, The
Anointing of the Sick (Crestwood, N.Y.: St. Vladimir’ s Seminary Press,
2009), 68.
المقال ممتاز استاذ عادل. ربنا يباركك
ردحذف