الثلاثاء، 16 يناير 2018

المسيحية والعلم- 4

القديس والفيلسوف أغسطينوس (354- 430م): أحيانًا ما يُتهم أغسطينوس بأنه ضد العلم والعقل؛ لأنه صاحب العبارة الشهيرة ((credo ut intelligam تعني ”أنني أؤمن لكي أفهم.“ كذلك لأنه عبَّر عن شكوكه في قدرة العلم أو ما كان يُسمى في تلك العصور ب ”الفلسفة الطبيعية“ على تفسير الكون. وبالرغم أنه لم يسهم بأي إسهامات في مجال العلم، لكنه ساهم إيجابيًا في شرح العلاقة بين المسيحية والكتاب المقدس والعلم. فهو يحذر من تصديق العلم المزيف الذي يتعارض مع الكتاب المقدس، وفي نفس الوقت يحذر المسيحيين من الجهل بالحقائق العلمية في المجالات المختلفة، ويقول:
من العار والخطير لجاحد أن يسمع مسيحيًا، من المفترض أنه يفسر معاني النصوص المقدسة، وهو يتحدث بكلام هراء حول هذه الموضوعات، ويجدر بنا اتخاذ كافة الوسائل لمنع هذه الموقف المحرج، الذي يُظهر فيه الناس جهلاً كبيرًا... وإذا وجدوا مسيحيًا يخطئ في مجال يعرفونه جيدًا، ويسمعونه يواصل آراءه الحمقاء عن أسفارنا، فكيف سيؤمنون بهذه الأسفار في أمور تتعلق بقيامة الأموات، ورجاء الحياة الأبدية، وملكوت السموات، إذا ظنوا أن صفحاتها تمتلئ بالمغالطات، وعن حقائق تعلموها هم بأنفسهم من خلال التجربة وفي ضوء المنطق والعقل؟[1]
كما يذكر أن مصداقية الكتاب المقدس تتعرض للتشكيك عندما يحاول بعض المسحيين الدفاع عن أفكارهم ونظرياتهم العلمية المغلوطة بالاحتكام إلى الكتاب المقدس:
إن شراح الأسفار المقدسة المتهورين وغير الأكفاء يجلبون متاعب لم يُسمع بها من قبل وأسى على أخوتهم الأكثر حكمة عندما يُمسكون بآرائهم المغلوطة، ثم يُعنفون ممن هم غير ملزمين بسلطان اسفارنا المقدسة... لأنهم عندئذٍ لكي يدافعوا عن آرائهم الحمقاء والخاطئة بشكل واضح سيحاولون الالتجاء إلى الكتب المقدسة بحثًا عن برهان، ويتلون من الذاكرة فقرات كثيرة يظنون أنها تدعم موقفهم، مع أنهم لا يفهمون ما يقولون، ولا الأمور التي يثبتونها.“[2]
هذا الكلام من اغسطينوس يؤنبنا في الحقيقة لعدة أسباب، منها إسراعنا غير المتروي لإثبات نظريات علمية، قد يُثبت خطؤها، أو يتم تعديلها بعد زمن، مما يعرض مصداقية كتابنا للتشكيك. وبالتالي، نحن ما نفعل هذا بإيدينا، وليس بأيدي من لا يؤمنون بالكتاب. لابد أن نفهم أن الأسفار كتبت حتى يفهمها الناس في زمانهم، وليس كنصوص مشفرة يُكتشف منها نظريات علمية في قرون لاحقة. الكتاب المقدس ليس كتابًا علميًا، بل وثيقة روحية تهدف إلى خلاص قرائها، ولا نعرف في لاهوتنا المسيحي ما يُسمى بالإعجاز العلمي في الكتاب المقدس.
يعترف أغسطينوس بالتناسق والتكامل في الخليقة، ويعترف بعجزه عن فهم بعض الظواهر أو المخلوقات:
إن الإله الحسن خلق عالمًا حسنًا. لابد وأن أعترف أنني عاجز عن معرفة سبب خلق الفئران والضفادع أو الذباب والحشرات.. ومع ذلك، أرى أن كل هذه الأشياء جميلة على طريقتها الخاصة.. لا أستطيع أن أنظر إلى جسم اي كائن حي بدون أن أجد القياس والعدد والنظام.. لقد رتب الفنان (الأعظم) كل شيء وفقًا لقياس وعدد ووزن.“[3]
الفكرة الأخرى التي أسهم بها أغسطينوس لها علاقة بطبيعة الزمن. من المعروف أن العقيدة المسيحية تؤمن أن الكون له بداية. هذه الفكرة كانت مثار سخرية الوثنيين من المسيحيين. وكانوا يسألون: ”ماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق الكون؟“ فقدم أغسطينوس إجابة رائعة بأنه لم يكن هناك ”قبل“ أو زمن قبل الخليقة. ونادى بأن الزمن هو بمثابة علاقة بين المخلوقات، والزمن إذن مخلوق. ولو لم توجد مخلوقات، لما وجد الزمن. وقال أغسطينوس: ”هل يسألون ماذا كان الله يفعل ’وقتتذاك‘ (then)؟ لم يكن هناك ’وقتتذاك‘.“ ولم يصل العلم الحديث إلى هذه الحقيقة إلا في مطلع القرن العشرين مع النظرية النسبية لأينشتين، وظهور فكرة ارتباط الزمان بالمكان. لم تكن بداية الكون بداية للمادة فقط، بل بداية للمكان والزمان أيضًا. ومِن ثَم فإن الحديث عن الزمن قبل الخليقة ليس له معنى.[4]   




[1] Augustine, The Literal Meaning of Genesis, ch. 19. Section 39.
[2] Ibid.
[3] Augustine, On Genesis: A refutation of the Manichees, book 1, 26.
[4] Blackwell Companion to Science and Christianity, edited by J. B. Stump and Alan G. Padgett, p  176.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق