لقد
اعتقد آباء الكنيسة أن الخلق الإلهي تضمن سمات رياضية مثل الوزن والعدد والمقياس،
هذه السمات الرياضية طبعت في عقل الإنسان مثلما طبعت في بنية الخليقة. هذا المفهوم
يضمن لكل أحد أن يدرس الكون ويتعلم عنه. ويفك شفرة سر هذا التناسق بين أدمغتنا
والكون؟ لماذا يبدو الكون مفهومًا؟! يقول إينشتاين ”إن أكثر الأمور استعصاءً على
الفهم أن الكون يبدو مفهومًا.“ لماذا يقول أينشتاين هذا؟ لأن هذا المهوم يبرهن على
وجود خطة إلهية في ذهن خالق قدير. نحن نسلِّم بالأمر هكذا، لكن العقول الجبارة ترى
لغزًا مستحكمًا في هذا الأمر.
القديس
غريغوريوس النزينزي (329- 390م) يتحدث عن مبدأ هام جدًا في
العلم، وهو ”مفهومية الكون“، أو ”انتظامية الكون“ أو ”معقولية الكون“ (Comprehensibility of Nature). يعبر عن هذا المعنى في خطبه، ويقول:
”لأنني أمتدح
هذا الرجل، وإن كان وثنيًا، الذي قال: ما الذي أعطى حركة لكل هذه، ويدفع حركتها
غير المتوقفة بلا عائق؟ أليس صانعها الذي غرس المنطق (reason- lógon) فيها كلها، والذي يتحرك وينضبط الكون
بمقتضاه؟ أليس هو من صنعها وأحضرها إلى الوجود؟ ولتفترض جدلاً أن هذا غير صحيحًا..
إلى أي شيء يُنسب حفظها واستمراريتها بما يتفق مع شروط الخلق الأول؟ هل يُسب هذا
إلى الصدفة، أم لشيء آخر؟ قطعًا ليس الصدفة. وما هو هذا الشيء الآخر سوى الله؟
وهكذا فإن المنطق الذي يصدر عن الله، والذي انغرس في الكل من البداية، وهو
القانون الأول فينا، ومرتبط بنا كلنا، يرتقي بنا إلى الله من خلال الأشياء
المنظورة. لذا دعنا نبدأ ثانية، ونعقل هذا.“[1]
يرى
النزينزي أن الذكاء الإنساني ليس نتاج الصدفة، لكنه ينسجم مع نفس المنطق (اللوغوس)
الذي طبعه الله في بنية الكون. وهذا ما يُسمى بالبصمة المزدوجة (double imprint) على كل من عقل الإنسان ومنظومة الطبيعة. ولقد استفاد فيما بعد
العالم يوهانس كيبلر (1571- 1630 م) من هذا التقليد الآبائي. كتب كيبلر مقالة
بعنوان ”عن تناسق الكون“ (On
the Harmony of the Universe): ”الهندسة التي هي أصل الاشياء كانت أزلية في عقل الله.“،
كما كتب لأحد اصدقائه يقول: ”هذه القوانين التي تحكم العالم المادي هي في متناول
استيعاب العقل البشري. لقد أراد الله أن ندركها حين خلقنا على صورته حتى نتشارك في
أفكاره.. وإذا سمحت لنا التقوى أن نقول هذا.. فإن فهمنا في هذا الصدد هو من نفس
نوع الفهم الإلهي، على الأقل طالما نحن قادرون على استيعاب جزء منه في حياتنا
الفانية.“[2]
كان
لفهم كيبلر لهذا المبدأ تأثيره الواضح على ألبرت أينشتين الذي يذكر كيبلر كمصدر
إلهام له لمجهوداته في عالم الفيزياء، وقد كتب يقول: ”ليس القناعة العميقة
لمعقولية الكون، واشتياقنا لنفهم ليس إلا إنعكاسًا ضعيفًا للعقل الإلهي المعلن في
الكون.“[3]
[1] Orations 28.16. (my translation)
[2] Blackwell
Companion to Science and Christianity, edited by J. B. Stump and Alan G.
Padgett, p. 8-9.
[3] Ibid.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق