الخميس، 24 سبتمبر 2020

السياسة عند الأب متى المسكين والبابا شنودة

 


مقدمة

يُوضع المتنيح البابا شنودة الثالث في كثير من السياقات في مقابلة عكسية (contrast) مع الأب متى المسكين. ومن بين هذه السياقات التحدث عن الدور السياسي في فكر كل منهما. هناك صورة أقرب إلى النمطية تقول إن الأب متى المسكين كان يدعو إلى أن تنأى الكنيسة بنفسها عن لعب أي دور سياسي وأن تخدم الوطن بالأخلاق المسيحية فقط. في المقابل كان البابا شنودة يبحث عن زعامة سياسية، وورَّط الكنيسة في صراعات سياسية ليست في نطاق دعوتها بالأساس. فالكاتب الشهير محمد حسنين هيكل في كتابه ”خريف الغضب“ يشير إلى مدرسة خاصة لكل منهما، ”البابا شنودة يرى أن الكنيسة مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم حلولاً لكل المشاكل.. أما متى المسكين فكان له رأى آخر، وهو أن الدين علاقة بين الله وضميره، وأنه لا ينبغي أن تكون له علاقة بالسياسة“.[1] في هذا المقال القصير أود أن أحلل هذه الفكرة موضحًا عوار هذه النظرة النمطية.

الفرق بين الأسقف والراهب

تختار الكنيسة الأساقفة والبابوات من الرهبان، لكن حياة الخلوة في الدير شيء، ومسؤولية الأسقف الراعي شيء آخر. وتاريخ الكنيسة يعلمنا كيف أن آباء الكنيسة رفعوا دفاعات (apology) للولاة والأباطرة للدفاع عن قضية شعبهم. ربما لو قدِّر للأب متى أن يكون على رأس الكنيسة في هذه الحقبة، لفعل مثلما فعل البابا شنودة. فالأوضاع في مصر لم تكن مثالية. وفي فترة مبارك على الأقل لم تكن هناك حياة حزبية تشجع على انخراط العلمانين في العمل السياسي. وبالتالي لم يقدر العلمانيون من أبناء الكنيسة على الانخراط في العمل السياسي. فهل تتراجع الكنيسة وتقول هذه ليست مهمتي. بل عوضت الكنيسة ما عجز عنه العلمانيون، أو لنقل إن هذا الوضع فُرض عليها فرضًا.

غياب الزعامات والرموز الوطنية

كانت مشاركة الأقباط في ثورة 1919 قوية، لأن السياق وقتها كان داعمًا لهذه المشاركة الفعالة. وظهرت قيادات وطنية التف حولها الجميع مثل سعد زغلول وقيادات حزب الوفد. لكن في الخمسين سنة الماضية غابت الرموز الوطنية عن الساحة، ماذا يفعل الأقباط؟ وجدوا في البابا شنودة ضالتهم؛ إذ وجدوه القائد الملهم، والصحفي النابغ، والشاعر الحساس، والواعظ المفوه، والمدافع الشرس عن الأقباط أحيانًا، والباكي والمتوسل إلى السماء أحيانًا أخرى. هذه المواصفات والمواهب الفطرية عند البابا شنودة كانت لتكسبه قلوب الجماهير الكاسحة من ناحية، وتثير حفيظة خصومه السياسيين من ناحية أخرى.

تنامي الحركات الإسلامية المتطرفة والتهديد الوجودي

في فترة السبعينات إلى التسعينات تنامت الجماعات الإسلامية المتطرفة، وتمدد الفكر الوهابي، وبالأخص بعد حرب أكتوبر وهجرة المصريين إلى دول الخليج. فنُهبت تجارة الأقباط، وحُرقت كنائسهم. ولا ننسى حادثة الزاوية الحمراء. تأكد الأقباط بأن وجودهم مهدد. نحن لا نتحدث هنا عن مشاركة سياسية أو مواطنة أو امتيازات معينة، بل نتحدث عن أزمة وجود. من هنا في رأيي يضع الأقباط أهمية على بناء الكنائس، لأنهم يعتبرون أن بناء الكنيسة بمثابة تشبُّث بأرضهم ووطنهم. في هذا الوضع لا يمكن للكنيسة ورأسها، البابا شنودة، أن يدير ظهره لشعبه ويظهر بموقف سلبي، بل القوة هنا مطلوبة لطمأنة شعبه.

هذا التهديد الوجودي هو ما دفع الأقباط للتعلق أكثر بالبابا شنودة، وثبَّت دوره القيادي، أو الزعامي إذا شئت، لكن بدراسة السياقات المختلفة نقدر أن نتفهم لماذا حدث ذلك. لم نكن في رفاهية الاختيار بين المشاركة الحزبية السياسية أو التقوقع داخل الكنيسة وتصدُّر الإكليروس. هذا الوضع فرضته الظروف كما بينت سابقًا.

الأب متى المسكين والدفاع عن الاشتراكية

من ناحية أخرى نرى الأب متى منخرطًا في السياسة بل ومدافعًا عن الاشتراكية الناصرية ومناصرًا لها، ويعتبر الاشتراكية ”تجربة عظمى... في جمهوريتنا الحديثة“،[2]وحكمًا أفضل مما عاشه الإنسان تحت عهود الملكية والإقطاعية“.[3] كما أنه يؤيد هذا النظام السياسي بتفاسير لآيات الإنجيل. كما أنه بشكل غريب يبرر تقييد حرية ”بضعة ألوف من الرأسماليين في سبيل تحرير ملايين الشعب“.[4] هذا النوع من البراجماتية هو عمل سياسي محض وليس له ما يبرره في المسيحية. فالغني لا يجب أن يُقيد ولا الفقير أيضًا. فليس الغنى خطية في حد ذاته بل الجشع. حسنًا يتراجع الأب متى عن تأييد نظام حكم بعينه فيما بعد؛ إذ يقول ”فالمسيحية وبالتالي الكنيسة ليس لها اتجاه خاص في أنظمة الحكم، ولا تناصر وضعًا اجتماعيًا أو سياسيًا.. لكنها تعمل ما هو أعظم من ذلك كله، فهي تهب أولادها حرية كاملة ليتصرفوا كل واحد منهم في أمور الدنيا حسب أصول الدنيا دون أن يجرح ضميره المسيحي“.[5]  

خاتمة

أعتقد أن كلاً من الأب متى المسكين والبابا قد أديا دورهما بكل أمانة. البابا شنودة على رأس الكنيسة يحارب من أجل قضية وجود شعبه وكنيسته في مناخ معادٍ. والأب متى في قلايته يحاول التحذير من خطورة الإفراط في تدخلات الكنيسة في المجال السياسي. وكلاهما على حق. في الوضع الطبيعي تبتعد الكنيسة عن مجال السياسة وتقدم أبناءها لينخرطوا في العمل المجتمعي والسياسي "بضمير مسيحي" كما يقول الأب متى. لكن الظروف وقت البابا شنودة كانت أقل من مثالية، وتعذَّر فعل هذا.    



[1]  عبد الله الطحاوي، فتنة طائفية، أم شرارة الصراع على الهوية، (مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2013)، ص 40.

[2]  متى المسكين، مقالات بين السياسة والدين، (دير أبو مقار، وادي النطرون، 1977)، ص 58.

[3]  نفس المرجع السابق، ص 57.

[4]  نفس المرجع السابق، ص 67.

[5]  متى المسكين، الكنيسة والدولة: الطائفية والتعصب، (دير أبو مقار، وادي النطرون، 2006)، ص 45.

هناك 9 تعليقات:

  1. رائع د. ذكرى ربنا يباركك.

    ردحذف
  2. رائع جدا يا استاذنا

    ردحذف
  3. مقال موضوعي جدا
    رائع كالعادة

    ردحذف
  4. مقال رائع رغم اختلافي أنه البابا كان ممكن يفوت الفرصة على اي نظام سياسي بأنه يرفض أن يتدخل كممثل للأقباط سياسيا كان في الحالة دي هيكون صعب للنظام السياسي أنه يحصر الأقباط في ركن الكنيسة
    والشعب في ذات الوقت كان هيضطر في الاخر أنه ينصج سياسيا ويطالب بحقوقه بعيدا عن الكنيسة

    ردحذف
  5. مقال رائع رغم اختلافي أنه البابا كان ممكن يفوت الفرصة على اي نظام سياسي بأنه يرفض أن يتدخل كممثل للأقباط سياسيا كان في الحالة دي هيكون صعب للنظام السياسي أنه يحصر الأقباط في ركن الكنيسة
    والشعب في ذات الوقت كان هيضطر في الاخر أنه ينصج سياسيا ويطالب بحقوقه بعيدا عن الكنيسة

    ردحذف
  6. مقال رائع رغم اختلافي أنه البابا كان ممكن يفوت الفرصة على اي نظام سياسي بأنه يرفض أن يتدخل كممثل للأقباط سياسيا كان في الحالة دي هيكون صعب للنظام السياسي أنه يحصر الأقباط في ركن الكنيسة
    والشعب في ذات الوقت كان هيضطر في الاخر أنه ينصج سياسيا ويطالب بحقوقه بعيدا عن الكنيسة

    ردحذف
  7. أولا الدافع لكتاب الكنيسة والدولة هو النشاط السياسي للأنبا صموئيل في أمريكا وسويسرا وغير ذلك مما كان يُشكل خطرا على الأقباط في مصر وخصوصا أن الأنبا صموئيل كان يعمل سكرتيرا للبابا وكان مؤثر جدا... وكان له انتماء معادي لسياسة عبد الناصر خصوصا في أفريقيا!!! وكانت هناك منظمات عالمية ترغب في فرضه بطريركا بعمل الدعاية له وإرسال التبرعات الضخمة لمصر ولعبد الناصر باسم الأنبا صموئيل من مجلس الكنائس العالمي!!! كان ذلك يقابل من الدولة بالقلق الشديد!!! وكان لا بد من عمل لخروج الأقباط من تلك الورطة الشنيعة... الدكتور وليم سليمان والدكتور مراد وهبة وقفا بقوة في مواجهة الأنبا صموئيل ونشاطه السياسي!!! لذلك نجد عبد الناصر يقربهم منه جدا ويعينهم في مواقع سياسة هامة في الاتحاد الاشتراكي كما كان لهم مقالات في مجلة الطليعة... كان عبد الناصر يتجنب عمل شيء يسيء للكنيسة لكنه كان يتوقع أن يقوم الأقباط أنفسهم بمحاربة نشاط الأنبا صموئيل السياسي فكان موقف أبونا متى بكتابه موقف مهم جدا بل ضروري في ذلك الوقت لإنقاذ الموقف القبطي ... في نفس الوقت بسبب الأسقفين (الأنبا صموئيل والأنبا شنودة) كان الشعور العدائي القبطي يتزايد جدا ضد عبد الناصر بسبب إبعاد مرشحي مدارس اللأحد من الانتخابات البابوية (بما ف ذلك أبونا متى المسكين نفسه) ... لكن أبونا لم يأخد موقف الأسقفين المعادي وذلك كان سببا رئيسيا في أنه يكتب عن الاشتراكية لمحاولة أن يكون هناك وزن للأمور في علاقة الأقباط مع الدولة ... لا تنسى أن كتاب الكنيسة والدولة صدر عام 1964 في عز ما كان أبونا متى في وادي الريان!!! يعني كان مش فاضي يكتب في هذا الموضوع إلا بسبب ظروف قهرية ولخوفه على الكنيسة من موقف الأسقفين المعادي للدولة!!!

    ردحذف
  8. أما عن موفق الأنبا شنودة السياسي بعد أن صار بطريركا فكان موقف غريب جدا وضار جدا. كان الأنبا شنودة لا يريد أن يكون هناك صوت لقبطي غير صوته سواء في داخل الكنيسة أم في التعامل مع الدولة ... هذا لموقف كان يسعد السادات جدا في الأول وفعلا نجح في أن يعزل الأقباط ويسكت صوتهم اللسياسي تماما مما كان له أثر في غاية من الضرر حيث وجد السياسي الوطني المسلم الحر يقف وحده يقاوم التيارات الإسلامية التي شجعها السادات !!! بالتأكيد كانت تيارات الإسلام السياسي في عز قوتها أيام الملك فاروق وكانت مستندة على الإنجليز والملك معا!!! لكن كانت مقاومتهم شديدة جدا بسب وجود السياسي القبطي مع المسلم يعملان بقوة معا وفي وحدة من أجل الوطن! لذلك لم يتمكن الإخوان المسلمين من عمل أي شيء فعال ضد مصر... لكن بكل أسف في مطلع عصر السادات انعزل الأقباط ودخلوا الجيتو فصار الإسلام السياسي يعمل بحرية بتشجيع السادات وغياب الأقباط !!! وبمرور الوقت لما بدأت شعبية الأنبا شنودة تكون مؤثرة أرقت السادات لما بدأ الأنبا شنودة يقاوم حيث كان يشعر بقوته معتمدا على المتعصبين المحيطين به فصار الأنبا شنودة بشخصه يمثل قوة معارضة السادات... كان السادات يرى أنه في كسر هذه القوة لن تكون هناك قيامة للأقباط ... الأنبا شنودة لم يُضعف فقط الكيان القبطي بعزله لكنه أضعف نفسه جدا حيث لم يكن هناك صوت قبطي أخر سوى صوت الأنبا شنودة . طبعا ذلك كان يشكل كارثة أيام مبارك حيث كان الإسلام السياسي يعربد ضد الأقباط بلا ضابط مع اللصمت الذليل للبابا وعدم وجود صوت قبطي واحد يقاوم ما يرتكب من جرائم

    ردحذف