خلاصة
تعليم الآباء عن عمل الثالوث القدوس في التدبير
القديس
كيرلس الكبير نموذجًا
هذا
الكتاب من مؤلفات د جورج حبيب بباوي، ويقع في حوالي 85 صفحة، إصدر نشر جذور، في
عام 2022، لكن كتابته كما هو واضح في المقدمة كانت في يونيو 2019.
الكتاب
بشكل عام جيد، خاصة وأنه يناقش قضية الثالوث القدوس وتدبير التجسد، وهي موضوعات
أساسية في الإيمان المسيحي، من حين لآخر يلمح الكاتب أو يذكر صراحة خصومه
اللاهوتيين، وهما مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، والمتنيح الأنبا بيشوي مطران
دمياط، وكنت أتمنى لو كان البحث خالصًا وخاليًا من هذا..
ولا تُستخدم الكتابة اللاهوتية في تصفية الحسابات.. لكن هذا ماضي وليس في أيدينا
تغييره. النصف الثاني من الكتاب (أي من ص 49) يقدم د بباوي موجزًا لكتاب ”الحوار
حول الثالوث“ للقديس كيرلس الكبير، وليس لدي أية ملاحظات على هذا الجزء. فهو سرد
لأفكار القديس كيرلس مع القليل من التعليقات، ولذلك ليس لدي ما أقوله، ومتفق مع
هذا الجزء بشكل كامل.
أشياء جيدة في هذا الكتاب..
الشيء
الجيد الآخر هو وجود لغة واضحة جدًا في التأكيد على أن التأله لا يعني أن نصير آلهة
بالطبيعة وإنما بالنعمة. في صفحة 34 تحت عنوان ”لماذا يستحيل على الإنسان المؤلَّه
بالنعمة أن يصبح إلهًا بالطبيعة“ يسرد الكاتب 6 أسباب لبيان هذه الاستحالة، منها ما
يلي:
1-
من المستحيل أن يتحول المخلوق إلى خالق.. لأن الإنسان لا
يملك وجوده، وهو مقيد بالطبيعة التي خُلق بها.
2-
الله هو واجب الوجود، وهذا لا يمكن أن ينطبق على
الإنسان.
3- المحبة الإلهية لا تعمل إلا من خلال الفوارق بين الله
والخليقة، لأن بقاء كل مخلوق في دائرة وجوده هو الذي يجعله ينال النعمة... وشركتنا
في المحبة الإلهية لا ترفعنا إلى هذه الدرجة من المساواة.
4-
المحبة الإلهية تُعطى، لا لكي تمحو وتبيد، بل لكي تجدد.
5- تجديد الإنسان يبدأ بالمعرفة، والمعرفة عطية واستعلان..
والاستنارة تعمي أنه يأخذ ما لا وجود له في كيانه الإنساني.
وهذا
جيد، لكن هناك بعض العبارات التي إذا قرئت بمفردها ستكون مزعجة بعض الشي، فمثلاً
يقول ”لأن هدف الاستعلان هو التبني... لأن الإنسان عندما يتحد بالابن، يشترك في
بنوته، أي في حياته الأقنومية الخاصة“ (ص 27). عبارة ”حياته الأقنومية الخاصة“
ربما تُفهم بشكل خاطئ إذا لم يُذكر الأسباب الستة السابق ذكرها.
مؤاخذات
على هذا الكتاب..
1-
رفض لقب ”موجود“ عن الله. يقول د بباوي في ص 17 إن لفظة ”موجود“ هي اسم مفعول في
اللغة العربية لا يجوز استخدامه بالمرة في الخطاب عن الله. نفس الشيء في حاشية (1)
ص 77 حيث قال إنه لا يفضل بالمرة كلمة ”موجود“ للتعبير عن الأقانيم ويفضّل في
المقابل لفظة ”كائن“. ويكرر ضعف كلمة ”موجود“ في ص 81.
وللرد
على هذا أقول: ليس هناك مشكلة في إطلاق لفظة ”موجود“
على الله، ولا خطأ في ذلك بحجة أن لفظة ”موجود“ هي اسم مفعول، ولابد لكل موجود من
موجد له. وذلك وفقًا لعلماء اللغة العربية أنفسهم. ولكن هناك أسباب أخرى منها:
1- في
حاجة اسمها المشترك اللفظي.. زي كلمة ”عين“.. التي يُقصد بها ”عين ماء“، أو العين
كعضو في الجسم، وعين كمكان أو محل، وعين بمعنى جاسوس.. إلخ. فإطلاق لفظة ”موجود“
ليس بتطابق المعنىnot univocally بين المخلوق والخالق.. نفس الشيء أيضًا الكلمة
الأخرى التي يستخدمها د بباوي وهي ”كائن“، فهي تُطلق أيضًا على أي ”كائن“ حي من
الكائنات المخلوقة.. لكن ليس بتطابق المعنى.. فأنا كائن عارض الوجود، بينما الله
كائن واجب الوجود.
2- وإنما
المقصود من ذلك أنه ”الموجود القديم/ الأزلي“ قبل كل شيء.. والذي لا يعتمد في
وجوده على عِلة سابقة له..
3-
كذلك
إطلاق لفظة ”موجود“
عن الله لنفي العدم عنه.
4- الأكثر
من ذلك أنه يحق أن يكون الله هو الموجود بالمعنى الحقيقي.. لأننا في الأصل عدم..
فقد أخذنا الوجود كنعمة.. لكنه هو الموجود الحقيقي..
5- أخيرًا
هل استخدم الآباء لفظة ”موجود“ .. أكيد! يقول
ق هيلاري أسقف بواتييه ”لا توجد صفة مميزة لله يمكن أن يدركها العقل أكثر من
الوجود، لأن الوجود بالمعنى المطلق لا يمكن أن يُعزى لمن سوف ينتهي أو لمن له
بداية، لكن من يجمع بين استمرارية الوجود وامتلاك الغبطة الكاملة، لا يمكن أن يكون
غير موجود سواء في الماضي أو في المستقبل. فكل ما يتعلق بالله لا يمكن أن يكون له
بداية ولا يمكن أن يفنى أيضًا“ (عن الثالوث 1: 5).
6- في الدراسات اللغوية هناك نوعان من المعنى: معنى دلالي denotative وده اللي
موجود في المعاجم مع النحو والصرف وخلافه.. ومعنى تداولي pragmatic وده معنى
المصطلح لما يطلع بره المعاجم ويتم تداوله واستخدامه في سياق موقف تواصلي بين
أشخاص مشاركين في هذا الموقف التواصلي.. فلما يكون عندي مصطلح بيستخدم بشكل صحيح
دلاليًا، وكمان أصبح ليه معنى تداولي راسخ، وبعدين نقول ده غلط ولا يصح إطلاقه على
الله، فهذا شيء غريب، ولا يُمجد الله أن نشكك الناس في لفظة يسترجعون بها معاني
حضور الله وسنده وتعزيته ومعيته معنا في أحلك الظروف. هناك أمور أخرى يتوجب فيها
التدقيق والتمحيص كما سيتبين لاحقًا.
2- جملة في
غاية الخطورة قيلت في ص 41، وهي ”ما يجب أن نؤكد عليه أنه لا يوجد في الثالوث
ما هو غير أقنومي. لا توجد صفات في الله الثالوث غير أقنومية“. فهل صفات
الرحمة/ البر/ الحضور الكلي/ القداسة/ الأزلية/ الصلاح.. كلها صفات أقنومية! على
الأقل كان يجب توضيح هذه العبارة الغامضة. فهذه بالحقيقة تحتاج إلى شرح مدقق
أكثر.. خصوصًا وأن آباء الكنيسة اعتادوا تقسيم الصفات الإلهية إلى نوعين: صفات
جوهرية essential
attributes وهي صفات
الجوهر الإلهي ويشترك فيها الأقانيم الثلاثة بالتساوي، وصفات أقنومية hypostatic attributes وهي التي يتميز بها كل أقنوم عن الآخر، وهم صفات الأبوة، والبنوة،
والانبثاق.
لكن
إذا افترضنا حُسن النية، فأعتقد أنه يقصد أنه لا توجد صفات في الله غير مؤقنمة،
بمعنى صفات لحالها (كأنها أعراض) بل إن الصفات يحملها أقانيم/ أشخاص. وهذا فهمته
من د جورج عوض حين قال ذات مرة أن ”الفعل (الإلهي) لا يمكن أن يوجد بدون أن يؤقنم ενυπόσταση، هو مؤقنم“ كما أنه لا وجود للجوهر الإلهي
مجردًا عن الأقانيم (المعرفة الإلهية بين الثيؤولوجيا والإيكونوميا، ص 71). في كل الأحوال أوردت
المعنيين.. حتى لا يتشكك أحد عندما يقرأ الجملة المشار إليها.
3- جملة قيلت ص 42 ”لأن ما يحدث في التدبير يجد جذوره في الحياة الإلهية“. مع أنه قال في ص 15 أن الهراطقة سقطوا في ”عدم التمييز بين ما أُعلن في زمان التدبير وما هو كائن منذ الأزل وإلى الأبد في الذات الإلهية“.
أولاً من المعروف أن اللاهوتي الشرقي دائمًا ما يستهل الكلام عن الثالوث بالتمييز بين الثالوث في ذاته/ أو ”ثالوث اللاهوت“ immanent Trinity وثالوث التدبير/ أو الثالوث التدبيري economic Trinity أي في علاقته بالخليقة واستعلانه بالخلق والفداء.. إلخ. كما يعيب اللاهوتيون الأرثوذكس على اللاهوتيين الغربيين بأنهم خلطوا بين الشيئين. ففي هذه الفقرة د بباوي يقول إن استقرار الروح في الابن (أزليًا) هو جذر أو تعليل لاستقرار الروح على الابن (تدبيرًا، زمنيًا). هذه الطريقة هي طريقة كارل رانر، اللاهوتي الغربي، وليس طريقة الآباء الشرقيين. لأننا لو طبقنا نفس المنهجية على إرسال الروح القدس من الآب والابن.. فالآب يرسل الروح والابن يرسل الروح، فهل مردود ذلك يكون أن الروح منبثق من الآب والابن؟! هذا ما نرفضه. بل ونتهم الغربيين أنهم خلطوا بين فعل أزلي وهو الانبثاق وفعل تدبيري وهو الإرسال.
فأفعال الله التدبيرية الخارجية.. ليس بالضرورة تجد
تعليلها في العلاقة الداخلية الأزلية بين الأقانيم. فالإخلاء مثلاً هو فعل تدبيري
ليس له جذور- وليس له ضرورة ولا احتياج- في علاقة الثالوث الأزلية. الشيء الآخر
والأهم أن تفسير استقرار الروح على المسيح في المعمودية يفسره الآباء على أنه فعل
تدبيري يخص الابن المتجسد.. من أجل تقديس البشرية، وكانوا يحرصون في تفسيراتهم
لمثل هذه النصوص أن يميزوا بين الابن (في صورة الله) الذي لم يكن محتاجًا لتقديس
الروح ومسحته، لأنه القدوس دائمًا وأزلاً، وبين الابن (في صورة عبد) الذي يحتاج لفعل
المسحة والتقديس لصالح البشرية. أظن أنه ما كان يجب أن يأتي على ذهننا ربط حلول
الروح على الابن في الأردن واستقراره فيه أزليًا.
مبدئيًا دعنا نؤكد على هذا من كتاب للمتنيح د جورج عوض إبراهيم بعنوان ”المعرفة الإلهية بين الثيؤولوجيا والإيكونوميا“ ص 59 كما في الصورة التالية.
يذكر
د جورج عوض الآتي: ”لم يستطع الغرب أن يدرك الاختلاف بين إعلان الله في التاريخ
(التدبير)، وبين طريقة وجود الله قبل خلق العالم الذي يدعوه الشرق ثيؤلوجيا“ (ص
58). ثم يضيف قائلاً: ”ما قلناه هو بمثابة الاختلافات بين التقليد الغربي والشرقي
التي أفرزت ظهور تفسيرات كثيرة خاطئة في الغرب... منها مشكلة الانبثاق من الآب
والابن filioque“ (ص58).
يعود د جورج عوض ويقول مستشهدًا بالقديس أثناسيوس الذي ميز بين ”اللاهوت أي وجود الثالوث ad intra في ذاته وفي حد ذاته، والتدبير ad extra لله الذي يتوجه تجاه العالم وخلاصه“ (ص 59)، ويقول في (ص 62) ”لا يجب أن نساوي الثالوث التدبيري بالثالوث اللاهوتي“. ثم يشرح دكتور جورج عوض إن مولتمان (لاهوتي غربي) أخطأ حين ربط بين آلام الابن في التدبير ونقلها إلى إطار اللاهوت (إطار الثالوث في ذاته) عندما تحدث مولتمان عن إله يتألم أبديًا (ص 63).وبالتالي أعتقد أن الجملة المشار إليها كانت تحتاج إلى تدقيق أكثر وشرح أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق