من المرات النادرة التي أقرأ فيها كتابًا عن المسيحية
لمؤلف غير مسيحي. لذا هناك أمور استوقفتني وتعجبت منها؛ لاتفاقها مع صدق وحقيقة الديانة المسيحية، وفيها استطاع الكاتب أن يستوعب
بعضًا من لُب الرسالة المسيحية، فأعجبتني. وهناك أمور أخرى وجدته يفهمها على
طريقته وخلفيته الخاصة غير مراعٍ للخلفية الكتابية والحضارية للمسيحية. الكتاب هو ”حياة
المسيح“ والمؤلف هو عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد.[1]
في هذه الورقة سأحاول إعطاء أمثلة على هذين المسارين.
أولاً: نقاط الاتفاق التي أعجبت بها
أعجبني أن العقاد يؤكد أن اكتشافات قمران ”لا تضيف إلى
معلوماتنا عن حقائق الديانة المسيحية، غير أنها تؤكد لنا فضلها ولزومها في آوانها“.[2]
كما أن هذه الكشوف لم تغيّر شيئًا في الجدل حول بتولية مريم. كما أعجبتُ بوصفه
لحالة الطبقية التي سادت المجتمع قبل ظهور المسيحية، وتنعُّم فئة من الشعب، وشقاء
فئة أخرى، حتى سئمت هاتان الفئتان من الحياة، وصدق قول المسيح عن الإنسان الذي ربح
العالم كله وخسر نفسه.[3]
كما أجاد العقاد في شرح الحالة الاقتصادية والتثقل بالضرائب، وكذلك تفشي الأمراض
في العصر الذي عاش فيه المسيح.
كما بيَّن العقاد إفلاس الحالة الفكرية والدينية قبيل
ظهور المسيحية، ووصفها بأنها حالة من ”التصفية قبل الإفلاس“.[4]
هذه الحالة المفلسة تجلت في اتخاذ القياصرة لألقاب إلهية، وظهور تيارات فلسفية كثيرة
ومتناقضة، فهناك الأبيقوريون الذين ينكرون العناية، والرواقيون الذين يتبعون القدر
وبعوالمهم المتعاقبة، والفيثاغورسيون واعتقادهم بتناسخ الأرواح. كما نبَّر على التوليف
الفلسفي الذي قدمه فيلون الفيلسوف اليهودي السكندري.[5]
أمّا في مسألة وجود تشابهات بين المسيحية وديانات أخرى
وثنية قبلها، فيقول العقاد إن بعض الدارسين حمَّلوا هذه التشابهات فوق طاقتها، وأن
هذه التشابهات ”لا تنفي ولا تثبت“،[6]
وأن تكرار رقم 12 في المسيحية وديانات وثنية مثلاً لا يعبر عن شيء، ويستشهد بكتاب
سوتينوس ”القياصرة الاثني عشر“ وكانوا كلهم من الشخصيات التاريخية.[7]
وهو بهذا يرد على المشككين في تاريخية المسيح. كما نجده يذكر أحد الكشوف الأثرية
تثبت وجود يشوع بن نون، فوجدته متوازنًا جدًا في مسألة تاريخية المسيح والكتاب
المقدس.
كما أعجبني عند العقاد إجابته لسؤال لماذا أحبت النساء
شخص المسيح؟ يقول العقاد: ”لكن الرجل العظيم الذي يجتذب إليه قلوب النساء؛ لأنه
يشيع فيها السكينة، ويبسط عليها الطمأنينة، ويفعمها بحنان الطهر والقداسة، ويريحها
من وساوس الضعف والفتنة، أعظم في نفوسهن أثرًا من كل عظيم، وهو الذي من أجله ينسين
الجسد ويرتفعن بحبهن له فوق مناط الظنون“.[8] كما
أعجبني شرحه لفكرة أن المسيح ”أكمل الناموس“؛ إذ قال ”الناموس عهد على الإنسان
بقضاء الواجب. أما الحب فيزيد عن الواجب“،[9] وشرح
أن ”ناموس العقيدة هو الأصول الأبدية التي يقوم بها ضمير الإنسان“. كما برع العقاد
في وصف صميم الرسالة المسيحية حين قال إن هدفها هو ”تغيير البواعث“ القلبية، أو ما
أسماه تغيير ”المحور“.
كما أعجبني عند العقاد مقارنته بين الدعوة المسيحية
والدعوة الوثنية، حين قال ”لم يتمخض العالم الوثني عن رسول يجمع الأقوام إلى دين
واحد“ معللاً ذلك بافتقارهم إلى الحماس إلى ذلك، ”ولم يعرف التاريخ داعيًا وثنيًا
تجرد للتبشير والإنذار غير حافل بالموت ولا مرتدع بما يلقاه من زواجر الإرهاب
والوعيد“.[10]
وأوضح العقاد أن الدول الوثنية كانت تفرض عبادة أربابها على الشعوب المغلوبة
بالقوة، لكن رسالة الملكوت المسيحية فعلت نقيض ذلك؛ فقد غلبت (روحيًا) الدولة
الرومانية والشرقية، وتحقق قول يوليان الجاحد: لقد انتصر الجليلي![11]
كما أعجبني أنه قال إن قبول المسيحية لم يتوقف فقط على
الخوارق؛ لأن المعجزات التي فعلها المسيح لم تؤدِ إلى إيمان الكثيرين. لكنه يعزي
قبول المسيحية إلى أن النفوس كانت مقفرة ومتعطشة، ولأن الناس رأوا المبشرين بها ”غير
مكترثين لما يصيبهم.. فأصغوا إليهم وآمنوا كإيمانهم“.[12]
العقاد لم يعول كثيرًا على معجزات المسيح، بل قال ”إن
المعجزة الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على مر الزمن... رجل ينشأ في
بيت نجار في قرية خاملة بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً.. ولا ينقضي عليه من
الزمن في إنجازه هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، وقد يخضع إلى حين
ثم يتمرد“.[13]
كما أعجبتُ للعقاد عندما قال إن الاختلافات بين الأناجيل معقولة عند استقصاء
أسبابها والمقارنة بينها، وأن ”رفضها على الجملة أصعب من قبولها عند الرجوع إلى
أسباب هذا وأسباب ذاك“.[14]
ثانيًا: نقاط الاختلاف التي لم أتفق معها
لكن بالرغم من النقاط السابقة التي أُعجبت بها، هناك
الكثير من النقاط التي استغربتها، ووجدتها غريبة عن السياق الحضاري الذي نشأت فيه
المسيحية. من هذه النقاط مثلاً أن العقاد يرى أن النبوة كانت سهلة في هذا العصر،
مستشهدًا بوجود 400 نبي في عصر واحد في سفر الملوك الأول. بالطبع هو يرى الأمور من
وجهة نظر إسلامية؛ إذ لم يكن هؤلاء الأنبياء بالمفهوم التقليدي لكلمة نبي. أحد
الدارسين الكتابيين يرى النبوة ليس أن النبي يخبر (to inform) بأشياء
مستقبلية أو برسالة جديدة، بقدر ما يساعد الشعب على أن يشكلوا (to form) مستقبلهم
من خلال الطاعة لوصايا الله.
كما أن العقاد بشكل عام يحاول التلميح بأن المسيحية هي
الرسالة الصحيحة لأنها جاءت في الوقت المناسب لها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا،
وهذا ليس بعيدًا عن الصواب، لأننا نؤمن أن الله أرسل ابنه في ”ملء الزمان“، أي في
الوقت المعين، وليس أفضل من توقيتات الله، لذلك فالعقاد لا يقترب كثيرًا من مسألة
النبوات الدالة على مجيء المسيح وتحقيقها، بل يرى في عبقرية المسيحية أنها أتت
لتروي عطش الناس إلى منظومة دينية وأخلاقية بعد أن أفلست المنظومات السابقة. في
نفس السياق يرى أن صلب المسيح هو نتيجة حقد السياسيين عليه، وليس فداءً موعودًا به
كما نؤمن، فيقول ”إن كل داعية محبوب خطر على سلطة التقاليد والجمود“.[15]
كما أختلف مع العقاد في تفسيره لتجربة المسيح، على أنها
تجربة كل نبي يصارع بين الشك واليقين، وهل هو مختار من الله أم لا. هذه التجربة
بحسب الفكر الكتابي لها ما يوازيها في تجربة آدم في سفر التكوين، وتجربة شعب بني
إسرائيل في البرية، وهذا مثال واضح لكاتب يكتب بعيدًا عن السياق الكتابي. كما يتعرض
العقاد إلى مصطلح ”ابن الله“ لكنه يشرحه بمعنى البنوة العامة لله، مبتعدًا إلى حد
كبير عن الخوض في النقاش حول ألوهية المسيح. كما أن العقاد يلمح بنهاية الدعوة
المسيحية بمجيء دعوة الإسلام،[16]
مشيرًا إلى أنه لو عاد المسيح ثانية اليوم لرفض الكثير من ممارسات المسيحيين.
[1] عباس محمود العقاد، حياة
المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث، دار نهضة مصر، القاهرة، 1996.
[2] عباس العقاد، حياة المسيح، ص 12.
[3] نفس المرجع السابق، ص 42- 43.
[4] نفس المرجع السابق، ص 53.
[5] نفس المرجع، ص 60.
[6] نفس المرجع، ص 75.
[7] نفس المرجع، ص 76.
[8] نفس المرجع، ص 80.
[9] نفس المرجع، ص 105- 106.
[10] نفس المرجع، ص 123.
[11] نفس المرجع، ص 124.
[12] نفس المرجع، ص 142.
[13] نفس المرجع، ص 147.
[14] نفس المرجع، ص 145.
[15] نفس المرجع، ص 100.
[16] نفس المرجع، ص 165.