الثلاثاء، 24 مارس 2020

هل تستعيد الكنيسة دروس تاريخها في مواجهة الكوارث؟



مقدمة
أثار انتشار وباء كورونا موجة ذعر وارتباك لدى أعظم الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. لكن الإنسانية هذه المرة أصبح لديها خبرة ثمينة نظرًا للتقدم العلمي، ووسائل الاتصال، وإمكانية التعاون الدولي، فإذا بجهود العالم كله تتضافر من أجل وقف امتداد هذا المرض الفتاك. وبرغم أن طريقة وقف انتشار الفيروس واضحة على الورق وفي الأبحاث؛ إلا أن أفكارنا وروحياتنا، وجدالاتنا في هذه الأزمة أظهرت جهلاً بتاريخ مسيحيتنا وتعاملها في مثل هذا الأحداث، وكيف ربحت وكسبت منها، على عكس ما يحدث الآن. فيما يلي استعراض لبعض الأوبئة في القرون المبكرة، ثم في تاريخ الكنيسة القبطية في مصر، وسأحاول التركيز على بعض الدروس المستمدة منها، في محاولة لاستعادة الذهنية mind-set التي تبنتها الكنيسة في تلك المواقف العصيبة.   
أهم الأوبئة التي عاصرتها الكنيسة في القرون الستة الأولى:
1- طاعون جالينوس (165- 180م): ضرب منطقة أسيا الصغرى وجزءًا كبيرًا من أوروبا. وكان سببًا في وفاة اثنين من الأباطرة الرومان أحدهما ماركوس أوريليوس أنطونيوس الشهير، ولذا سُمي بالطاعون الأنطوني أو طاعون جالينوس نسبة إلى الطبيب الروماني الشهير جالينوس، والذي يُقال إنه هرب من روما أثناء هذا الوباء. وفي ذروته كان يحصد حياة 2000 شخص في روما كل يوم.[1]
2- طاعون كبريانوس (252- 267م): سمي بهذا الاسم لأن ق كبريانوس أسقف قرطاجنة قد عاصر هذا الطاعون، وقدّم وصفًا تفصيليًا لأعراض هذا الوباء في عظة له بعنوان ”الموت الجماعي“ كالآتي: ”الأمعاء مرتخية.. جروح في الحلق.. الأمعاء تهتز بقيء مستمر، العيون مشتعلة.. تعفن في القدمين أو بعض أجزاء الأطراف.. يتوقف السمع.. يعتم البصر“.[2]ضرب هذا الطاعون معظم مناطق حوض البحر المتوسط، وفي ذروته كان يحصد حياة 5000 شخص كل يوما في روما.
3- طاعون جوستنيان (542م): يُقال إن هذا الطاعون بدأ في صعيد مصر وانتقل إلى أوربا عبر السفن التي تنقل القمح إليها، واستمر لمدة 50 سنة. هذا الطاعون قضى على الطموحات السياسية لجوستنيان، وأعجزه عن استرداد الأجزاء الغربية التي أخذت من الأمبراطورية الرومانية، وأدت إلى هزيمة الرومان في معارك كثيرة أمام الفرس، وكذلك سهل مهمة الفتوحات الإسلامية بعد ذلك بقرن من الزمن. يُقال إن هذا الطاعون قتل في القسطنطينية فقط ما يقرب من 300 ألف في السنة الأولى فقط.[3] وفي ذروته كان يقتل ما بين 5-10 آلاف في اليوم الواحد.
ونظرًا لعدد الجثث اضطر جوستنيان لتعيين مسؤول عن التخلص منها اسمه ثيؤدور، ويحكي المؤرخ يوحنا الأفسسي كيف حفر ثيؤدور حفرًا هائلة تضم كل واحدة 700 ألف جثة، وكيف استأجر البعض للتخلص من هذه الجثث، ويصف كيف كان يضعون الجثث متراصة، ويضعون بينها جثث الأطفال، حتى تمتلئ المساحات كلها، ثم يضغطونها دوسًا بالأقدام، ويشبه الأمر بمعصرة العنب.[4]
أهم الأوبئة والمجاعات التي عاصرتها الكنيسة القبطية في مصر:
1- نقرأ عن مجاعة قاتلة أيام البابا بنيامين الأول (38)، إذ يقول كاتب تاريخ البطاركة الآتي: ”كان الموتى مطروحين في الشوارع والأسواق مثل السمك الذي يرميه الماء على البر، لا يجدون من يدفنهم.. كان سيفنى كل كورة مصر.. وكان يموت كل يوم ربوات“.[5]2- كما نقرأ عن غلاء ومجاعة وجفاف للنيل أيام الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، وكان يموت كل يوم من ألف إلى ألفين.[6]3- كما نقرأ في سيرة البابا يوحنا (48)، أن البابا يوحنا كلّف شماسه الخاص ويُدعى مرقس بأن ”يفعل رحمة مع كل من في المدينة، وكانت مخازن البيعة وحسابها تحت يده.. وكان يغيث كل جائع ويدفع لهم طعامهم بكرة وعشية في كل يوم“.[7]
4- كما نقرأ في سيرة البابا يوسف (يوساب) الأول (٥٢)، نَقرأ: وبعد أيام جاء وَباء عَظيم على البَهائِم، وكانَت الدَّواب تَتَماوَت في الغَيط وفي سائِر المَواضِع إلى أن لم يَبق لأحَد مِن أهل مصر دابَّة. ولم يَجِدوا ما يَعمَلون عَلَيه، ولا يَقدِر أحَد يَمشي إلاَّ بَعد أن يَسُدّ أنفه مِن كَثرَة جيَف الدَّواب. حَتَّى الزَّرع انقَطَع وقَلَّت الثَّمرة، وكانت أرض مصر في حُزن عَظيم. ثُمَّ عاد الوَباء على النَّاس وفَنوا مِثل البَهائِم“. ماذا كانت استجابة الأب البطريرك: كان ”لا يَفتُر مِن البُكاء بدُموع غَزيرة على فَناء النَّاس والبَهائِم، ويَقول: يا رَبّ لقد حَوَّلت وَجهك عَن الشَّعب لأجل ذُنوبي، ولا تَفعَل مَعَهُم مِثل آثامي، وأدرِكهُم عاجِلًا برَحمَتِك. خَلِّص شَعبك وجَدِّد وَجه الأرض[8].“ ثم استجاب الله لصلاته، وجاءت أزمنة التعويضات والبركة بعد ذلك.

5- كما نقرأ في سيرة البابا خرستوذولوس (66) عن مجاعة شديدة أكل فيها الناس البغال والحمير الميتة،[9] كما نقرأ قصة جميلة عن الأنبا باسليوس أسقف أرمنت، الذي ”كان في زمن الغلاء لا يدع في بيته خبز إلا ويتصدَّق به.. وفي أحد الليالي.. دق باب منزله فقال لولده مينا أعطه خبزًا، ولم يكن بقي عنده إلا رغيفين، فدفع له رغيف.. ثم قرع الباب آخر فدفع له بعض (جزء من) الرغيف الآخر.. ولما هَمَّ ليفطر به قرع الباب آخر.. فألزمه أن يدفع بقية الرغيف.. وبقي بلا شيء يفطر عليه“،[10] وبقية القصة تحكي عن تدبير الله له بشخص لا يعرفه آتاه ليلاً وأعطاه منديلاً به طعام. 6- ثم نقرأ عن الشدة المستنصرية الشهيرة، حين حدث جفاف لمياه النيل لمدة 7 سنوات في أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (1094م). في هذه المجاعة قيل إن المصريين أكلوا الكلاب والقطط، وصنعوا خطاطيف ليصطادوا المارة من الناس في الطريق ليأكلوهم.. ولم ينصلح الحال إلا مع قدوم الوزير بدر الدين الجمالي.
الأخلاق المسيحية على المحك
يتميز ق كبريانوس بالتوازن والواقعية في وصفه لسلوك المسيحيين في هذه أزمة الطاعون الذي عاصره؛ فهو من ناحية يلوم البعض ممن يطلبون حماية خاصة لأنهم أصحاب الدين الصحيح؛ فيقول:
يزعج البعض أن قوة هذا المرض تهاجم شعبنا بالتساوي مع الوثنيين، كما لو كان المسيحي قد آمن بغرض أن يكون له تمتع بهذا العالم وهذه الحياة بدون ألم.. يزعج البعض أن هذا الموت الجماعي مشترك بيننا وبين الآخرين، ومع ذلك أي شيء في العالم ليس مشتركًا لنا مع الآخرين، طالما أن جسدنا هذا لا يزال باقيًا حسب قانون ميلادنا الأول المشترك بيننا وبينهم؟ فطالما نحن في هذا العالم، فنحن مشتركون مع الجنس البشري، في التساوي الجسدي، لكنهم منفصلون من جهة الروح... فمهما كانت أضرار الجسد فهي مشتركة بيننا وبين بقية الجنس البشري.. حينما تكون الأرض عقيمة.. فالجوع لا يميز بين الناس.. السبي يشمل الجميع.. انكسار السفينة يشمل الكل.. الحميات وضعف الأطراف.. كل هذه مشتركة لنا مع الآخرين، طالما أن هذا الجسد المشترك الذي لنا لا نزال نحمله في هذا العالم[11]
ما يؤكد عليه القديس كبريانوس هنا، أن المسيحيين الحقيقيين لا يتذمرون؛ لأنهم لم يدخلوا الإيمان ليحصلوا على حصانة خاصة ضد الأوبئة والأمراض الطبيعية؛ فطالما نحن تحت شريعة وقانون الميلاد الأول الجسداني، ونعيش في قيود الزمكان، سيسري علينا ما سيسري على الجميع. والاختلاف الوحيد هو ما نملكه في الروح، الكنز الذي لنا في السماء حيث لا يسرقه لص ولا يفسده سوس.
ومع ذلك يؤكد ق كبريانوس على التباين الشاسع بين استجابة المسيحيين بوجه عام مقارنة بالوثنيين. الأمر الذي يؤكده البابا ديونسيوس الكبير في رسالة فصحية له لبعض الأخوة في الأسكندرية؛ إذ يقول ”باغتنا هذا الطاعون الذي كان بالنسبة لهم (أي الوثنيين) الشيء الأكثر رعبًا.. لكن بالنسبة لنا فلم يكن الحال هكذا، إذ لم يكن أكثر من تدريب وتجربة..[12] نفس الشيء يؤكده ق كبريانوس: ”هذا الوباء وهذه الكارثة الذي يبدو مرعبًا ومميتًا، يفحص بر كل واحد، ويمتحن أذهان الجنس البشري“. ثم يوضح بأن هذا الامتحان هو فرصة لإظهار توجهاتنا الحقيقية وميولنا الراسخة، وفي نفس الوقت تعرية ادعاءاتنا، مثل ”هل الأصحاء سيخدمون المرضى، هل الأقرباء يحبون عائلتهم بحنان، هل السادة يشفقون على عبيدهم، هل الأطباء لا يتخلون عن المرضى الذين يلتمسونهم، وهل الشرسون يلجمون عنفهم، وهل الجشعون يمكن أن يطفئوا.. نار جشعهم الثائر.. حتى بالخوف من الموت، هل المنتفخون يحنون أعناقهم، وهل الأشرار يخففون جسارتهم..“.[13]
يرصد لنا ق ديونسيوس الكبير الأخلاقيات المسيحية التي ظهرت بشكل عملي في هذه النكبة كالآتي: ”أغلب الأخوة كانوا أسخياء بحبهم الدافق وحنوهم الأخوي.. دون أن يحتسبوا لأنفسهم من الهلاك، وكانوا يزورون المرضى، ويبحثون عنهم بكل جهدٍ ليسعفونهم.. وكثيرًا ما كانت العدوة تنتقل إليهم.. وقد تعافى عدد ليس بقليل على أيديهم، في حين أنهم كانوا يموتون“.[14] هذه أخلاق المسيحيين، لكن ماذا عن أخلاق الوثنيين؟ يقول البابا ديونسيوس: ”أما الوثنيون فكانوا يفعلون العكس تمامًا. إذ كانوا يهجرون هؤلاء الذين أصيبوا، ويتخلون عن أعز أصدقائهم. وعندما كانوا يشرفون على الموت كانوا يلقونهم في الشوارع أحياء، وإذا ماتوا كانوا يتركونهم بلا دفن كما لو كانوا منبوذين..[15] ويذكر البابا ديونسيوس أن شمامسة كانوا يحاولون إسعاف المصابين بالطاعون.  
بالطبع نحتاج أن نتأكد من صحة وصف البابا ديونسيوس، حتى لا يظن البعض أنها بروبجندا دينية لا أكثر، وهذا ما يتبين من خلال تحليلنا التالي. لكن الجدير بالذكر أن كثيرين من المؤرخين يرون أن سلوك المسيحيين في هذا الطاعون كان سببًا في دخول أعداد هائلة إلى الإيمان المسيحي. وسأستعين هنا بالكاتب رودني ستارك في كتابه (The Rise of Christianity)، الذي يقدم تحليلاً مهمًا لهذه الحقيقة. فإذا سألنا كيف رأى الوثنيون والمسيحيون هذا الوباء القاتل؟ يشرح رودني ستارك أن الناس في ظل هذه الأزمة من الطبيعي أن يسألوا: لماذا؟ لماذا يموت الآخرون وأنا لا؟ ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ومن الطبيعي أن يلجأ الوثنيون إلى معبادهم، فإذ بهم يجدون الكهنة قد هربوا، أو القليل منهم الذي لم يستطيع إعطاء جواب سوى أن هذا هو غضب الآلهة. كذلك فلاسفتهم لم يقدموا جوابًا مشبعًا مرجعين الأمر إلى الحظ، كما عبّر شيشرون الخطيب الروماني المفوه بقوله ”يعتمد على الحظ أو ما نسميه الظروف أنك تتعرض للرخاء أو للمصائب.. بعض الأحداث فوق تحكم البشر“.[16]
وسط هذه الآلهة المحكومة بنزواتها، وعدم مبالاتها بالبشر، قدمت المسيحية بتعاليمها تصورًا مختلفًا عن الإله والعلاقة معه؛ فلم تبقى علاقة نفعية. لم يعد إرضاء الإله بالقرابيين كما في الديانة الوثنية، لكن إله المسيحية لا يرضيه سوى إظهار محبتنا لبعضنا البعض. رأينا في رسالة البابا ديونسيوس كيف أظهر المسيحيية محبة عملية تجاه بعضهم البعض وتجاه الآخرين من غير المسيحيين. هذه لم تكن بروبجندا دينية؛ أولاً: لأنه بحسب رودني ستارك، كتب البابا ديونسيوس هذا الكلام في رسالة فصحية لرعيته، ولن يخاطر بقول شيء لا يلمسونه في الواقع من حولهم. ثانيًا: أنه بعد هذا الطاعون بقرن من الزمان تقريبًا نجد الأمبراطور يوليان الذي حاول إحياء الوثنية من جديد يشكو من اهتمام المسيحيين بغير المسيحيين. ويحاول تأسيس ما يشبه الجمعيات الخيرية لمجاراة المسيحيين، وفي خطاب له يحث كاهن وثني على محاكاة فضائل المسيحيين.[17]وبحسب ستارك لم ينجح يوليان؛ لأنه لم يجد أساسًا عقائديًا متينًا، ولا مماراسات تقليدية راسخة لدى الديانة الوثنية، بعكس ما كان متوفرًا لدى الديانة المسيحية.
خاتمة
لم تتقوقع الكنيسة حول نفسها في جدالاتها الخاصة جدًا، بل سعت لتقديم إجابات شافية عن صلاح الله.لم تبحث عن حصانة خاصة، معجزية أو غيبية، لحماية أبنائها، دون بقية الناس، من المرض الفتاك، بل قبلت صليب المرض بشكر ودون تذمر. لم ترى في الوباء غضبًا من الله، بل تدريب وامتحان وإظهار لأصالة ما نؤمن به. لم يكن هاجس الكنيسة الحفاظ على نفسها وطقوسها، الأمر المطلوب في الظروف العادية، بل كان هاجسها أن تقوم بدورها في إظهار خلاص المسيح ومحبته للعالم أجمع. لذا فتحت ذراعيها، بدلاً من أن تغلقهما على نفسها وعلى تفاصيلها الخاصة.  

[1] Encyclopedia of Plague and Pestilence: From Ancient Times to the Present, edit. George Kohn, p, 9-10.
[2]  نصحي عبد الشهيد، القديس كبريانوس الأسقف والشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ص 113-114.
[3] Encyclopedia of Plague and Pestilence, p. 216.
[4] Lester K. Little, Plague and the End of Antiquity: The Pandemic of 541- 751, p. 75.
[5] تاريخ البطاركة، طبعة دير السريان، ج1، صفحة 121.
[6] نفس المرجع السابق، صفحة 179.
[7] نفس المرجع السابق، صفحة 252.  
[8] شريف رمزي، سير البيعة المقدسة، بحسب أقدم المخطوطات، (تحت الطَّبع).
[9] نفس المرجع السابق، صفحة 515.
[10] نفس المرجع السابق، صفحة 497.
[11] نصحي عبد الشهيد، كبريانوس الأاسقف والشهيد، صفحة 110.
[12] ق ديونيسيوس السكندري الكبير، ترجمة أمجد رفعت، إصدار مدرسة الأسكندرية، صفحة 84- 85.
[13] نصحي عبد الشهيد، كبريانوس الأسقف والشهيد، صفحة 115.
[14]  نفس المرجع السابق.
[15]  نفس المرجع السابق.
[16] Rodney Stark, The Rise of Christianity: A Sociologist Reconsiders History, p. 79- 70.
[17] Ibid, 83.

هناك 4 تعليقات:

  1. بحث رائع ربنا يبارك حياتكم

    ردحذف
  2. مقال رائع، رينا يعوض تعب محبتك :)

    ردحذف
  3. حقيقي مقال اكثر من رائع شكرا لكل شخص تعب وجمع وكتب هذا التاريخ

    ردحذف
  4. مقال وبحث مشجع علي طلب ملاكوت الله في هذا الظروف العصيبة

    ردحذف