الاثنين، 5 مارس 2018

سر العشق الإلهي- تعليقات على فيلم الأب الخباز



شاهدت الفيلم التركي ”الأب الخباز“، الرابط بالأسفل[1]، واندهشت للعناصر المشتركة الكثيرة بين التصوف أو الصوفية الإسلامية من ناحية والصوفية أو النسك المسيحي، أو إن شئت لتسميها الحياة المستيكية الباطنية المسيحية من جهة أخرى. واندهاشي مبرر لأني لم أقرأ في هذا الموضوع للأسف. تدور أحداث الفيلم حول الأب الخباز الذي يكتشف سر الحياة في سر الخبز. الحنطة فيها أسرار الوجود كله. الإنسان يحتاج أن يُطحن، ويُعجن، ثم يدخل النار ليصير خبزًا يشبع القلوب والبطون.
لكن على قدر اطلاعي رصدت النقاط المشتركة التالية على سبيل المثال وليس الحصر:
-    فكرة إماتة الذات، ستجد في الفيلم الشيخ الولي يعلِّم الدرويش المبتدئ أن ”النفس هي العائق“. القديس أغسطينوس يقول ”انتصر على ذاتك ينهزم أمامك العالم.“[2] ولا شك يتبادر لأذهاننا قول السيد المسيح، وله علاقة مباشرة بالفيلم، ”إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.“ (يو 12: 24)
-       هذه الإماتة سبيلها هو الوصول إلى العشق الإلهي (divine eros)، فالعشق هو الهَّم والدواء. أي بدونه لا يرتاح الإنسان، والوصول إليه صعب، لكنه الدواء لكل أدواء البشر.
-      يعتبر العلامة أوريجانوس مؤسس الصوفية المسيحية.. يرى أوريجانوس أن كلمة محبة في آية ”الله محبة“ (1يو 4: 8) تترجم أغابي (agape) وهي مكافئة تمامًا لكلمة (eros) أو عشق. ويقول أوريجانوس: ”لا أظن أن المرء يُلام إذا ما دعى الله (عشق- eros)، كما دعاه يوحنا الرسول (محبة- أغابي). كما أنني فضلاً عن هذا أتذكر أحد القديسين يُدعى أغناطيوس قال عن المسيح: ’إن عشقي قد صُلب.[3] والإشارة هنا إلى رسالة أغناطيوس إلى أهل رومية 7: 2.
-     ديونسيوس الأريوباغي (المزيف) يعرّف العشق بأنه ”قدرة على إحداث الوحدة، والتحالف، وامتزاج خاص بالجمال المطلق والصلاح المطلق (الله).“[4]
-   القديس يوحنا الصليبي (في أسبانيا- 1542م) يُسمى أمير التصوف المسيحي، كما يعتبره البعض الجسر أو القنطرة بين التصوف المسيحي والتصوف الإسلامي. يقول: ”أين احتجبت يا محبوب، وخلقتني في أنين؟ كإيل هربت بعد أن جرحتني، وفي أثرك خرجت صارخة، فكنت قد ذهبت.“ ربما تظهر هذه الحيرة في جهاد الدرويش بطل الفيلم للوصول إلى العشق الإلهي. وهذه ترجمة أخرى لكلام عروس النشيد: ”أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِأَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا.“ (نش 2: 5)
-       فكرة أن يكون الله هو الحبيب المعشوق.. يقول ق يوحنا ذهبي الفم في قول شهير له على لسان المسيح: ”من يستطيع أن يعادلني في الجود؟ أنا أب وأخ وعريس وبيت وطعام ولباس وأصل كل ما تشتهي. لا أتركك تحتاج إلى شيء. أنت كل شيء بالنسبة لي.. الأخ والشريك في الميراث والصديق والقريب.. ماذا تريد أكثر من هذا؟ لماذا تنصرف عن من يحبك، وتتعب من أجل العالم؟ لماذا تغترف من برميل مثقوب؟
-       فكرة الذِّكر، وتكرار عبارات قصيرة، تظهر في الصلوات السهمية للرهبان، واستخدام المسبحة معروف في الرهبنة الكاثوليكية باسم صلاة الروزاري (Rosary) لحصر الذهن في أحداث إلهية مجيدة.
-       فكرة المعرفة الإشراقية العلوية التي لا تتأتى من الكتب. يرى الشيخ درويشًا مبتدئًا يكتب ويسجل العلوم والأفكار المختلفة. فيسأله وهل وجدت فيما تسجله ما تبحث عنه؟ فيجيب: لا. فيقول له ألقِ بالكتب، ومن الآن فصاعدًا لا تنقش ما تتعلمه على الورق، بل انقشه على قلبك. يُحسب للفيلم للأمانة أنه قال للمبتدئ أن ما حصله من علم لن يضيع سدى، لكنه سيكون معينه في مسيرتك للوصول إلى العشق الإلهي. أرى كلامًا مشابهًا عند القديس أغسطينوس: ”إذا لم تستطع مطالعة الكتب المقدسة وكشف حُجب كلام الله وإدراك أسرار كتبه، فعليك بالحب حينئذٍ ستجد كل شيء.[5] وايضًا يقول: ”إن عرفت المحبة تعلمت بواستطها ما كنت تجهله.[6]
-       فكرة المعجزات، في الفيلم الخبز يسوى بدون نار في الفرن. وأصحاب القلوب الدرويشية يعلمون بمجيء بعضهم البعض، وهناك شخصية في الفيلم تظهر وتختفي في أوقات معينة.. كل هذا ليس غريبًا عن خبرة الرهبان السواح في التراث القبطي.
-       فكرة رفض المناصب الكهنوتية.. عُرض على الدرويش الشيخ أن يكون إمام لمسجد السلطان، فرفض متحججًا أنه لابد أن يترك المكان الذي يُعرف فيه سره.. والقديس فرنسيس الأسيزي مثلاً يرفض رسامته قسًا.
-     فكرة الشخص المجذوب.. الذي يتصرف بطريقة أقرب إلى الخبل، وقد ظهرت في الفيلم، وبالرغم من هذا فهو يحس بسر الشيخ وكراماته بدلاً من المئات من الأشخاص العاديين. وهذا أيضًا ليس غريبًا عن بعض الشخصيات البسيطة التي ظهرت في تاريخنا الرهباني القديم والمعاصر.
-    وأخيرًا، الحكمة في الصمت.. يحكي الشيخ الدوريش في الفيلم عن درويش مبتدئ قصد تكية أحد الشيوخ الصوفيين لينضم إليهم، فجاء الشيخ بصحن فارغ وملأه بالماء، فيفهم الشخص الآخر أنه لا مكان متاح له في المكان، وإذا به يقطف وردةً ويضعها في الصحن..
هذه القصة موجودة في القصص المسيحية مع اختلاف طفيف لا يُذكر. القصة المسيحية تحكي عن شاب قصد دير الصمت في فرنسا، لكن رئيس الدير يأتي بكوب ملآن على آخره بالماء. يفهم الشاب أنه لا يوجد مكان متاح له في الدير، فيأتي بورقة من الشجر ويجعلها تطفو فوق الماء. فيما معناه أنه لن يُثقل على أحد في الدير. أعجب رئيس الدير بحكمة الشاب وقبله في الدير.
-       يُحسب للفيلم في رأيي التأكيد أكثر من مرة على أن العشق الدنيوي لا يكون عائقًا أمام العشق الإلهي.. ولذلك لا يرفض فكرة الزواج على عكس الرهبنة.. وإن كان في أحداث الفيلم نرى تدريبًا على الانفصال عندما تركته زوجته ليسير في مسيرة العشق بالرغم من احتياجها له.. وأظن أن الفيلم يريد أن يلمح أن هذه الزوجة كان لها قلب درويشي أيضًا بتغلبها على عاطفتها في هذا الموقف.
-       كذلك يُحسب للفيلم فكرة أن ينطلق الدرويش ليزرع الحب بين الناس..     



[2] القديس أغسطينوس، خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، تعريب الخوري يوحنا الحلو، صفحة 225.
[3] Catherine Osborne, Eros Unveiled: Plato and the God of Love (Oxford: Clarendon Press, 2002), 73.
[4] Stephen Fields, Analogies of Transcendence (CUA Press, 2016), 199.


[5]  خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، صفحة 111.
[6] نفس المرجع، صفحة 112.

هناك 4 تعليقات: