السبت، 17 مارس 2018

أغسطينوس وبحثه عن الله في الذاكرة



أصعب الأجزاء في كتاب الاعترافات لأغسطينوس هو جزء من الكتاب العاشر يتحدث فيه اغسطينوس عن الذاكرة البشرية ودورها في بحثه عن الله.. ستجد هذا الجزء في ترجمة ”اعترافات أغسطينوس، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، إصدار دار المشرق، الصفحات من 200- 218“.. عاوز أقول الأول أني اشتريت الكتاب ده وأنا في مراهقتي، ولم أفهم إلا القليل جدًا منه، ثم عدت إليه مرة أخرى في العشرينات، ولم أفهم إلى المزيد من القليل، ثم الآن بنعمة ربنا فهمت المزيد من القليل أيضًا. أقول هذا لأثير في نفسي ومن يقرأني روح التواضع.. عمرنا لا يكفي لنفهم كل شيء، فلماذا التظاهر بأننا أمتلكنا الحقيقة المطلقة؟!
هذا الجزء الخاص بالذاكرة يشرح إبستيمولوجيا ق أغسطينوس.. هذا المصطلح الأخير يعني ”كيف نعرف أننا نعرف؟“ يبدأ أغسطينوس بشرح أبسط أنواع المعرفة المستمدة من الحواس اللي بتلتقط صور من العالم المادي المحيط. وهنا بيجي دور الذاكرة اللي بيشبهها بالمخزن الواسع اللي بيخزن كل الصور والانطباعات اللي بستقبلها الحواس، وكمان الذاكرة بتقوم بترتيبها وتنظيمها واستدعائها عند الطلب.
-        صور عن الألوان بكل أنواعها بتدخل عن طريق العين.
-        صور عن الروايح بكل انواعها بتدخل عن طريق الأنف.
-        صور عن الأصوات بتدخل عن طريق الأذن.
-        صور عن النكهات والأطعمة، حادق، ماسخ، بتدخل عن طريق اللسان.
-        صور عن الملمس ..خشن، ناعم، بارد، ساخن، بتدخل عن طريق الجلد.
بعد ما يخزن الإنسان كل الصور دي في الذاكرة، يقدر بعد كده يميز بين الأبيض والأسود حتى لو هو في الضلمة.. ويقدر يميز بين الأصوات المختلفة حتى لو قاعد في صمت كامل. أغسطينوس بيقول أنه أحيانًا يستدعي بعض الصور من الذاكرة يلاقي بعض الصور بتطلع بسرعة، والبعض الآخر بيتأخر كأنه مش عاوز يطلع.. والبعض الآخر بيبقى عاوز تنتزعه بالعافية كده.. واحيانًا تجري بعض الصور وتطلع ومتكنش عاوزها.. وكأنها بتبرقلك وتقولك ”أنت عاوزنا.. صح؟“ فيقوم يطردها بيد عقله لحد ما يطلع اللي هو عاوزه ”من بين الغيوم ويظهر لي من داخل خبائه الخفي.
لكن في حاجات تانية الذاكرة بتعملها!
المفاهيم المجردة زي الحب والحرية، أو علوم الرياضيات والأرقام، والمعرفة المستمدة من قراءة نصوص معينة.. الحاجات دي ملهاش واقع خارج العقل علشان الذاكرة تلتقطله صورة.. يعني عمرك قابلت رقم (1)؟ عمرك قابلت الشعور بالخوف واقف كده مجسم قدامك؟ كمان وأنت بتدرس نصف قطر الدائرة، تعبت من المذاكرة دخلت المطبخ فلاقيت نص قطر الدائرة واقف جنب التلاجة؟
أغسطينوس بيقول طب الحاجات دي دخلت الذاكرة إزاي؟ لو سألت العين هتقولك؟ لو ليها لون يبقى دخلت عن طريقنا. ولو سألت الأذن هتقول: لو ليها صوت معين يبقى إحنا اللي نبهنا لوجودها. ولو سألت الأنف هتقول: لو ليها ريحة معينة يبقى إحنا المسؤولين. هنا اغسطينوس بيقول إن الحاجات دي كانت موجودة في عقله قبل أن يدركها .. هي بس مكنتش في الذاكرة! وهنا بيظهر تأثر أغسطينوس بالنظرية الأفلاطونية عن المعرفة اللي أسمها ”الاستذكار- أو الأنامنسيس“ اللي بتقول أن إحنا كان عندنا المعرفة دي في وجود سابق، ونسيناها، ولما بنتعلمها بنفتكرها (مع أن أغسطينوس لا يوافق على حكاية الوجود السابق دي).
هل الذاكرة فيها حاجة تانية؟ بيقول فيها الانطباعات impressions سواء فرح- حزن- كآبة.. إلخ. وبيقول أن الانطباعات دي لم تدخل بالحواس، وإنما النفس اختبرتها ثم أوكلتها إلى الذاكرة.. وربما الذاكرة سجلتها بدون استئذان من النفس حتى.. بيسأل أغسطينوس.. هل ينطبق نفس الشيء على النسيان؟! هو بيقول أنه لما بيتذكر النسيان بيحضر النسيان من الذاكرة.. وبيقول إن ”النسيان حاضر في ذاكرتنا بصورته فقط، لأنه لو كان حاضرًا بذاته لجعلنا ننساه؟!!“ ويقول مَن يقدر أن يحل هذه المعضلة؟ ومن يستطيع أن يجلي غوامضها؟ صورة النسيان هي الموجودة مش النسيان نفسه- لكنه بيرجه يقول إن علشان الذاكرة تحتفظ بصورة للنسيان جواها يبقى لازم سيبق كده وجود النسيان نفسه كحضور حقيقي..
لكن لو كان النسيان حاضر بشكل حقيقي.. إزاي الذاكرة ممكن تسجل صورته عليها؟؟؟ لأن النسيان لما بيحضر بيمحو كل رسم وتخطيط؟؟؟؟ المهم أنه بيستنتج من كده أنه مهما بلغ الأمر من الغموض والتعقيد، إلا أنه متأكد أنه بيقدر يتذكر النسيان- مع أن النسيان ده هو اللي بيدمر أي تذكُّر! (وأنا بقرأ هنا قلت: ارحم أمي العيانة!)
نأتي إلى نقطة هامة جدًا في حديث أغسطينوس عن الذاكرة؟ أغسطينوس بيقول كيف أجد ربنا إذا لم أتذكره؟ وبيقول المرأة اللي أضاعت الدرهم وراحت تدور عليه، لو كانت لاقيته ولم تتذكره، مكنتش هتعرفه. يعني مثلاً لو انت ضايع منك قلم بلون معين، لكن أنت مش فاكر لونه بالضبط، فحتى لو لاقيته مش هتتعرَّف على القلم.. ومش هتكون مـتأكد هل هو ده القلم اللي ضاع منك، ولا اللي ضاع منك لسه ضايع وده قلم تاني خالص. لكن لو تذكرته كويس هتقول بنبرة أكيدة: ”أيوه.. هو ده.. هو ده بالضبط“
وبالتالي لو في شيء إحنا فاكرينه ولو جزئيًا، يصبح من الممكن لما نلاقيه اننا نفتكره.. أما الشيء لو كان منسي تمامًا.. فمش هندور عليه اصلاً.. ”الشيء المفقود لا نبحث عنه إلا إذا بقينا نتذكره جزئيًا.
أغسطينوس بيطبق الكلام اللي فات ده على بحثه عن ربنا.. وبيقول أن لما بيبحث عن ربنا .. هو بيبحث عن السعادة. طب هل الذاكرة عندها صورة مخزنة أو انطباع عن السعادة الحقيقية؟ أغسطينوس بيقول عندها بالتأكيد.. هذه التأكيد هو بانيه على فكرة أن كل الناس بلا استثناء بتدور على السعادة بكل طريقة ممكنة.. حتى لو كان بطريقة غلط. السعادة شيء يعرفه كل الناس ”أنها لشيء يعرفه الجميع ولو قُدر لنا أن نسألهم سؤالاً واحدًا: أيرغبون في السعادة؟ لأجابوا بالإجماع ودون تردد، نعم. فلو لم تكن ذاكراتهم محتفظة ببعض الشيء من هذه الحقيقة التي يصبون إليها لكان إجماعهم هذا مدعاة للشك.
ثم يؤكد اغسطينوس أن السعادة الحقيقة موجودة في الله فقط. والناس بسبب السقوط ممكن يوهموا نفسهم بسعادة بديلة.. لكنهم بيتمنوا أنهم يعيشوا السعادة الحقيقية، لكن يبدو أن الأمر مكلف شوية! لأن الناس بتحب نور الحقيقة، بس بيكرهوا تأنيبها. ”يحبون الحقيقة حين تنكشف لهم، ويبغضونها حين تكشف عن مخبآتهم (ما يخفونه)“ هذه هي حالة القلب البشري الأعمى والكسول..  
ثم يقول أغسطينوس أنه بحث عن الله في ذاكرته ووجده بداخلها.. وتعرف عليه.. لأن الله يسكن في ذاكرته.. فأدركه عندما تعرف عليه.. لكنه يسأل مرة أخرى:
في أي مكان تقيم في ذاكرتي يارب؟
أجل، أين تقيم؟ أي مسكن جعلت لك فيها؟
أي معبد أنشأت لذاتك فيها؟ لقد اوليت ذاكرتي شرف الإقامة فيها..
لكني أتساءل عن الجزء الذي تسكن فيه..
ثم يرجع ليجيب على نفسه: ”لماذا أبحث عن الموضع الذي تقيم فيه كأن ذاكرتي تتضمن أمكنة يتميز بعضها عن بعض؟ يكفيني أنك تسكن في ذاكرتي!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق