في ظل الجدل الدائر حول مفهوم ”الخطية الأصلية أو الجدية“، وفي ظل الكلام عن أن ق أغسطينوس فهم آية رو 5: 12 بشكل خاطئ، لأنه اعتمد على ترجمة خاطئة للآية، أحاول أن أستوضح هل فعلاً لم يفهم أغسطينوس هذه الآية في سياق لغتها الأصلية كما كتبها بولس الرسول، وكيف فهم العبارة المثيرة للجدل ”إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“ أو ”فيه أخطأ الجميع“.
يقول أغسطينوس في عمل له بعنوان (A Treatise Against Two Letters of the Pelagians) وفي الفصل السابع تحديدًا وتحت عنوان: ”ما معنى "فيه أخطأ الجميع"“[1] يقول الآتي:
هؤلاء
يتحدثون وهم يريدون أن يبعدوا الناس عن كلام الرسول (بولس) إلى فكرهم الخاص. لأنه
حين يقول الرسول: ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ
وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ،
وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ“ (رو 5: 12)، فهم يريدون أن
يفهموا ليس أن ”الخطية“ هي التي اجتازت، بل ”الموت“. فما معنى الكلمات التالية
إذن: ”إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ“؟
سنلاحظ هنا أن ق أغسطينوس في ظل مواجهته للبيلاجيين والمانويين، هو على دراية جيدة بمحاولة تفسير رو 5: 12 على أنها تفيد ”وراثة“ الموت وليس وراثة الخطية. ومن هذا المنطلق سيحاول تفسير العبارة الغامضة التي تقع في نهاية الآية والتي تُفسر بأنها إما تتضمن ضمير وصل relative pronoun يعود على كلمة سابقة في الآية، وإمَّا رابط يفيد السببية causality بمعنى (لأن أو because). نجد فيما يلي من كلام أغسيطنوس أنه لا يتطرق إلى المعنى الثاني، بل يتناقش حول عبارة الوصل (ἐφ’ ᾧ πάντες ἥμαρτον). يكمل أغسطينوس قائلاً:
لأنه إمَّا أن الرسول يقول إنه في هذا ”الإنسان
الواحد“ قد أخطأ الجميع، الذي قال عنه ”بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ
إِلَى الْعَالَمِ“، أو أنه ”في الخطية“ أو بالتأكيد ”في الموت“.
هنا يستعرض أغسطينوس كل الاحتمالات التي يمكن أن تعود عليها عبارة ضمير الوصل (ἐφ’ ᾧ)؛ وهي 3 احتمالات: إما تعود على الإنسان أو الخطية أو الموت. يكمل أغسيطنوس:
لأنه لا
يجب أن يزعجنا أنه لم يقل ”فيه“ (in which) أخطأ
الجميع (مستخدمًا الصيغة المؤنثة للضمير)، بل قال ”فيه“ (in whom) أخطأ
الجميع (مستخدمًا الصيغة المذكرة). لأن كلمة ”الموت“ في اللغة اليونانية هي من
النوع المذكر. وبالتالي دعهم يختارون كيفما يشاءون؛
ندرك هنا أن أغسيطنوس يعي جيدًا أن جملة ضمير الوصل تعود على اسم مذكر، كما يدرك أن كلمة ”خطية“ هي كلمة مؤنثة (ἡ ἁμαρτία)، ويدرك أن كلمة ”موت“ هي كلمة مذكرة في اليوناني (ὁ θάνατος). وبالتالي ما معنى الكلام عن أن أغسيطنوس لا يفهم اليونانية، ولا يعرف أن يقرأ أو يفهم الآية في لغتها اليونانية الأصلية. واضح أن هذا الكلام عارٍ عن الصحة. عندما حكى أغسطينوس عن تجربته الصعبة في تعلُّم اللغة اليونانية، كان يدرس أشعار هوميروس في المدرسة! فمثل أي شخص يتعلم لغة ثانية لا يتحدث بها في محيطه، هكذا كان الأمر مع أغسطينوس، لكنه كان يعرف قدرًا كافيًا من اللغة اليونانية. وفي بعض الأحيان كان يرجع إلى الترجمات المختلفة وكان لديه الأصل اليوناني لرسالة رومية كما نقرأ في (Contra Faustum bk 11: 4).
يكمل أغسيطنوس مستعرضًا الاحتمالات التفسيرية لهذه
العبارة:
لأنه إمَّا
أنه ”في الإنسان“ أخطأ الجميع، وهكذا قيل هكذا لأنه حين أخطأ كنا جميعًا فيه. أو ”في
الخطية“ أخطأ الجميع، لأن هذا كان الفعل الذي يختص بالجميع بشكل عام، الذي كان سيكتسبه
جميع الذين وُلِدوا. أو يتبقى لهم أن يقولوا ”في الموت“ أخطأ الجميع. لكن بأي
طريقة يمكن أن يُفهم هذا، فأنا لا أرى هذا بوضوح.
يستعرض أغسيطنوس هنا 3 احتمالات تفسيرية؛ فإمّا أن تعود
جملة الوصل على الإنسان الواحد (آدم)، أو الخطية، أو الموت. ونجده يتعجب من
التفسير الأخير، أي ”في الموت“، فيما يلي سيبين مبرراته لاستبعاد هذا التفسير:
لأن الجميع
يموتون في الخطية، ولا يخطئون في الموت. لأنه حين تسبق الخطية فإن الموت يتبعها،
وليس حين يسبق الموت فإن الخطية تتبعه. لأن الخطية هي شوكة (لدغة) الموت- بمعنى
اللدغة التي بضربتها يحدث الموت، وليس اللدغة التي بها يضرب الموت. مثل السُّم إذا
شُرب يُسمى كأس الموت. لأن الموت يحدث بسبب هذا الكأس، وليس لأن الكأس يوجد بسبب
الموت أو أن الموت يقدمه.
من المعروف أن رومانيدس ومايندورف ينادون بأن التفسير
الصحيح هو ”في الموت“ أخطأ الجميع، فيجعلان الموت سببًا في انتشار الخطية،
فيقول رومانيدس في كتابه ”الخطية الجدية“: بسبب الموت ”أصبح الإنسان يهتم
بضروريات الحياة لكي يبقى حيًا... وتصير قوة الخوف من الموت الأصل الذي منه ينبع
تعظيم الذات والأنانية والكراهية والحسد وغيرها من الأهواء المماثلة“.[2]
نلاحظ أن رومانيدس يقول إن الخوف من الموت هو أصل كل الأهواء الخاطئة. نحن هنا
أمام مسألة تتعلق بالترتيب ordering أيهما يسبق من؟ ومن الواضح أن أغسطينوس يرفض
أن يكون الموت هو سبب الخطية، لكنه يقول إن الخطية هي سبب الموت، ويؤيد كلامه
بتشبيه الكأس والسم وأيضًا بشاهد كتابي ”أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ
الْخَطِيَّةُ“ (1كو 15: 56)، وكأنه يعتبر العكس بمثابة وضع العربة أمام الحصان. وقبل
أن نقيِّم رأي أغسطينوس، نكمل بقية كلامه:
لكن إذا كان
لا يمكن أن نفهم أن ”الخطية“ هي المقصودة في كلام الرسول عن أنه فيها أخطأ الجميع،
وذلك لأن اللغة اليونانية التي تُرجمت منها الرسالة، يُعبر عن ”الخطية“ بالنوع
المؤنث، فيتبقى أن نفهم أن كل الناس قد أخطأوا ”في الإنسان الأول“، لأن كل الناس
كانوا فيه عندما أخطأ. ومنه تُستمد الخطية بالولادة، ولا تُمحى إلا بالولادة
الثانية. لأنه هكذا فهم القديس هيلاري عبارة ”فيه أخطأ الجميع“؛ لأنه يقول ”فيه،
أي في آدم، أخطأ الجميع“، ثم يضيف: ”من الواضح أن الجميع أخطأوا في آدم، كما لو
كان في الجبلة، لأنه هو نفسه قد فسد بالخطية، فكل مَن يلدهم ولدوا تحت الخطية“.
فعندما كتب هيلاري هذا بدون أي غموض، فقد أوضح كيف ينبغي أن نفهم عبارة ”فيه أخطأ
الجميع“.
مرة أخرى تظهر معرفة أغسطينوس باللغة اليونانية التي
كُتبت بها الآية، ويدرك أن كلمة ”الخطية“ في اليونانية من النوع المؤنث. وهنا تتضح
حقيقة مهمة أن قراءة أغسيطنوس للآية بمعنى ”في آدم“ ليس ناتجًا عن قراءة خاطئة أو ترجمة
خاطئة، وإنما لأسباب هرمنيوطيقية أو تفسيرية؛ فهو لم يجد معنى منطقيًا مفهومًا في
قراءة الآية بمعنى ”في الخطية“، وذكر السبب أن اللغة اليونانية لا تسمح بذلك، وفي
قراءة ”في الموت“ لأن هذا من وجهة نظره يعكس الترتيب ordering الذي يفهمه
في سياقات أخرى في الكتاب المقدس.
في واقع الأمر فإن فرضية رومانيدس وغيره بأن الموت هو
سبب الخطية، هو أمر يمكن أن تفسره نظريات علم النفس، وكيف يؤثر الخوف على الإنسان
ويجعله يخطئ. لكني أقول إن الموت يمكن أن يكون رادعًا عن الخطية أيضًا، فيقول ق
يوحنا ذهبي الفم: ”لأنه بالحقيقة حين يكون الموت حاضرًا، وعندما ننتظره، فإنه
يقنعنا أن نكون متواضعين، ومتعلقين، وبسطاء، وأن نتخلص من كل شر“.[3]
أمّا في مسألة الترتيب ordering أي الخطية
أولاً ثم الموت، وليس الموت ثم الخطية. فنلاحظ سويًا بعض من أقوال ق كيرلس الكبير.
يقول ق كيرلس في تفسر إنجيل لوقا: ”وهكذا ذنب المعصية الذي بواسطة آدم قد
غُفر، وهكذا توقفت قوة اللعنة، وسلطان الموت تم إحالته إلى الإضمحلال. وهذا
ما يعلمه بولس أيضاً قائلاً "لأنه كما بمعصية واحد أصبح الكثيرون خطاة هكذا
أيضاً بطاعة الواحد أصبح الكثيرون أبراراً" (رو5: 19) لأن طبيعة الإنسان كلها
أصبحت خاطئة في شخص الذي خُلق أولاً، ولكنها الأن قد تبررت كلية من جديد في
المسيح“.[4]
وفي نفس التفسير يقول أيضًا: ”وإذ قد حمل خطية العالم فإنه يبطلها، ويبطل الموت أيضًا
الذي نتج عنها، والذي جلبناه على أنفسنا بواسطة الخطية“.[5] ويقول
إن الخطية هي ”أم الموت ومربيته“.[6]
ونقرأ في عظات القديس مقاريوس الكبير: ”إن العالم الذي تراه حولك، ابتداء من الملك حتى الشحات،
جميعهم في حيرة واضطراب وفتنة، وليس أحد منهم يعرف السبب في ذلك، مع أن السبب هو
ظهور الشر الذي دخل داخل الإنسان عن طريق معصية آدم، وأعني به "شوكة
الموت" (1كو 15: 56)“.[7]
الواضح هنا أن المعصية أولاً ثم الموت؛ لأن الخطية هي شوكة الموت وليس العكس.
لم أهدف إلى استعراض بحث متكامل عن نظرة أغسطينوس والآباء
الآخرين عن الخطية الأصلية/ أو الجدية، لكني أردت فقط أن أثبت أن أغسطينوس كان على
دراية كافية بنص رومية 5: 12 وما ينتج عنه من احتمالات تفسيرية. وأن اختياره لتفسير
”في آدم“- وليس ”في الموت أو الخطية“- هو نتيجة لنشاطه التفسيري، ومحاولته الخروج
بمعنى منطقي ومعقول من السياق الأشمل للكتاب المقدس.
[1] NPNF, series 1, vol 5, St. Augustine: Anti-Pelagian
Writings, A Treatise Against Two Letters of the Pelagians, book 4, ch.
7, p. 420 (1170).
[2] يوحنا رومانيدس، الخطية الجدية، تعريب
أنطوان ملكي- وائل مكرم، ص 168- 169.
[3] ق يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل
رومية، ترجمة د سعيد حكيم،مؤسسة القديس أنطونيوس، ص 252.
[4] ق كيرلس الكبير، شرح إنجيل لوقا، عظة 42.
[5] نفس المرجع السابق، عظة 46.
[6] نفس المرجع السابق.
[7] عظات القديس مقاريوس الكبير، ترجمة د نصحي عبد
الشهيد، عظة 15: 49، ص 164.
Thank you so very much for an excellent essay
ردحذفالف شكر لأستاذنا الكبير د رياض قسيس
حذفرائع كالعادة يا دكتور.... احسنت يا صديقي ☺️
ردحذف