الثلاثاء، 11 يناير 2022

القارئ والنص –أبونا سارافيم البراموسي

 


(إصدار مدرسة الأسكندرية للدراسات المسيحية، في 95 صفحة من القطع المتوسط)

من بداية الكتاب بنفهم إن الكاتب (أبونا سارافيم) بيشتبك مع النتائج المترتبة على الحداثة/ وما بعد الحداثة على قراءتنا وفهمنا للنص الكتابي. ويريد منا أن نتفاعل مع هذه التطورات حتى يكون الكتاب المقدس ذو صلة بحياتنا، كل واحد في موقعه، لأن الكتاب المقدس بتاع كل الناس، فهو إنجيل مسلوبي الحقوق.. والباحثين عن سكن جديد.. والفيزيائيين.. والأركيولوجيين.. والنساء الباحثات عن الإنجاب.. أو الزواج.. وسكان العشوائيات.. والمساجين.. والرهبان.. ومَن لم يرزقوا بأطفال أو بأطفال معاقين.. وللتجار والعمال والشحاتين والمعطائين.. واللاهوتيين والباحثين. هو إنجيل الجميع. ”وإن كل محاولة لفصل إنجيل يسوع عن الواقع الإنساني الممزق هو خيانه لنداء الإنجيل الأول“ (ص 13).

يتحدث الكاتب عن إن المعنى اللي بنبحث عنه في الكتاب المقدس هو عبارة عن ”دائرة“، وليس عبارة عن فكرة أو تعريف حصري، وإن ”عدم إحاطتنا بالمعنى لا يعني أننا مخطئون ما دمنا في دائرة المعنى الصحيح“ (ص 22). وبيقول إن طالما كنا داخل هذه الدائرة نقدر نقول إننا في ”دائرة اليقين“ (ص 23). وهذا موقف يتفادي نوعين من التطرف: 1- الادعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة، أو 2- عدم التيقن من أي شيء. ”الدائرة تحافظ لنا على حدود المعنى، وفي الوقت ذاته لا تختزل غنى المعاني الإلهية“ (ص 23).

ثم يعتمد الكاتب على فيلسوف كوبي اسمه جورجي غارسيا Gorge Gracia اللي قسم أنواع المعاني اللي بنبحث عنها في النص الكتابي كالآتي:

1- المعنى كدلالة significance، ومثال كده تعبير ”ابن الإنسان“ اللي ليه دلالة مسيانية وإسخاطولوجية لدى المتلقي الأول.

2- المعنى كمرجعية referenec، وهنا بتكون الكلمة أو العبارة لها إشارة مرجعية معينة مفهومة في وقتها.

3- المعنى كقصد intention، وده مرتبط بقصد/ نية الكاتب، ومن الصعب التيقن منه، لكن بنقدر نقرب من المعنى بالسياقات المختلفة.

4- المعنى كفكرة idea، زي كلمة ”هاجر“ اللي أصبحت مرتبطة بفكرة العبودية. يشير الكاتب إن هذا النوع يتفق عليه كل من الرمزيين والليبراليين، ولكنه فرق إن الرمزيين بيراعوا الأساس التاريخي. وفي رأيي أن هذا الكلام صحيح إذا كان يقصد بالرمزيين الأليجوريين، لكن الرمزية التيبولوجية تراعي الأساس التاريخي، بحسب الآباء وبحسب دارسي الكتاب المقدس مثل G. Beale. وأنا أعتبر أوريجانوس باستغراقه في الأليجورية هو رائد الليبراليين الحداثيين. لا شي جديد، كله قديم!

5- المعنى كأثر effect، ومثال على كده كلام المسيح عن السيف مع بطرس، ولكن لما قطع بطرس أذن العبد وانتهار المسيح له وشفاء العبد، فهمنا من هذا التصرف أو الأثر المعنى المقصود بالسيف.

بعد ذلك يتعرض الكاتب لنقد سي إس لويس الكاتب الإنجليزي لبولتمان اللاهوتي الألماني، لأن الأخير نزع الأساس التاريخي للقصة الإنجيلية. إذ رفض لويس ”دعوة بولتمان لقراءة ما بين السطور، لا كشيء خاطئ، ولكنه رأى أنه قبل قراءة ما بين السطور، علينا قراءة السطور أولاً“ (ص 35- 36). رفض لويس أن تكون الكاريجما (محتوى البشارة الإنجيلية) بديلاً عن التاريخ. وقال ”إن تجاهل الحقيقة التاريخية يحوِّل المعنى الموضوعي إلى معنى شخصي فقط، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لنسبية لا حدود لها“ (ص 36). كما أشار الكاتب إلى أن نزع الأساس التاريخي يدخلنا دائرة التفسير الدوسيتي (نسبة إلى هرطقة الخيالية) (حاشية 14 ص 37). ويدعم إن تي رايت العالم الكتابي المعروف نقد لويس للمدرسة الليبرالية الألمانية؛ إذ أن هذا التيار الأخير يعمل على خلق المعنى وليس البحث عن المعنى (ص 43).

بعد ذلك يتحدث الكاتب عن 4 عناصر في قراءة النص: (الحدث- الكاتب- النص- القارئ)، ويقول إن الروح القدس هو ”الخيط الرابط“ بينها. وحين يتحدث عن القارئ يقول الكاتب إن ”القارئ في عصرنا الحالي كثيرًا كما يجنح لخلق المعنى وليس فقط اكتشاف المعنى“ (ص 54). ويجب أن نميز بين ”التفاعل الخلاق“ مع الكلمة و”التفاعل الخالق“ للمعنى. وقدم أمثلة عملية لهذا الأمر بقراء يأتون بفرضيات مسبقة لديهم ثم يأكدونها بالكتاب المقدس مثل مؤيدي المثلية الجنسية والإجهاض. وقال إنه في هذه الحالات فإن القارئ ”يخشى على سمعته الحداثية/ ما بعد الحداثية ولكن على حساب حق الإنجيل“ (ص 55).

يعتمد الكاتب بعد ذلك على إن تي رايت N T Wright في تقديم عدد من أنواع القراء مع التطبيق على نص مت 2: 13- 15 وقصة هروب العائلة المقدسة إلى مصر كالتالي:

1- القارئ البسيط الواقعي naïve realistic، والذي قد يرى في النص السابق حماسًا زائدًا لفكرة الهروب أو الاعتماد على الأحلام دون النظر إلى تفاصيل أخرى.

2- القاري الظاهراتي phenomenalist واللي بيفصل النص عن الحدث التاريخي نفسه، ويعمل ترميز أو روحنة للحدث لاهوتيًا.

3- القارئ التقوي devout، وده لا هيلتفت للنص ولا الكاتب ولا الحدث، ويجري ناحية التطبيق المباشر للنص على حياته الشخصية وقد يقع في أخطاء كبيرة بحسن نية.

ثم يناقش الكاتب فكرة ”القراءة المثالية“ وبالأخص حين تعترضنا إشكالية في النص، هل سنذهب إلى القراءة الاختزالية المبسطة، أو القراءة الظاهراتية، وأحيانًا كل قارئ بيلجأ لنوع القراءة اللي بتحافظ على إحساسه بالأمان من جهة النص. يشير الكاتب إلى عالم كتابي إنجليزي يُدعى ريتشارد ألان بوريدج Burridge واللي بيقدم فكرة ”الزجاج الملون“. اللي هو مش زجاج شفاف فأقدر أشوف ما وراء النص، ولا هو مرآة بشوف فيها انعكاس صورتي كقارئ للنص، لكن بقدر أشوف ما وراء الزجاج (النص) وصورتي (القارئ) لكن بلون النص وبحسب الصورة المركزية المرسومة على الزجاج، واللي هي المسيح (كلمة الله المتجسد). (ص 75- 76).

آخر فكرة يختم الكاتب بها هي فكرة ”البوتقة الكنسية“، وأهمية أن نقرأ الكتاب كخبرة جماعية، وليس قراءة فرادنية منعزلة، وبيعزز القراءة دي الليتورجيا وشروحات الآباء السابقة. هذه البوتقة الكنسية ”ليست بوتقة حصرية تحجر على حرية التفاعل الشخصي مع الكلمة، ولكنها تمنح القارئ المعاصر رؤية آفاق أكثر رحابة في النص“ (ص 82). هذه البوتقة الكنسية تضمن عدم الانحراف عن ”المرتكزات المسيحية“ الأساسية حتى نتحرك بأمان في مساحات التفاعل الخلاق مع كلمة الله. فهناك فرق بين القراءة الشخصية personal، والقراءة المنفردة individualistic (ص 84). الأولى صحيحة والثانية غير صحيحة.

ملاحظة عامة

الكاتب مهدَّف ومباشر، وبحثه مترابط منطقيًا، سلس القراءة، يصل إلى غايته بأقصر الطرق. يحسب للكاتب الأمثلة والتطبيقات لتوضيح الأفكار، والاشتباك مع scholarship حديثة ومعاصرة مع الحفاظ بالروح المحافظة لكنيستنا الأرثوذكسية، والاتكاء على تقليدنا الآبائي والليتورجي كلما أمكن ذلك. الكتاب يستحق القراءة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق