الجمعة، 19 أكتوبر 2018

الخطب اللاهوتية- غريغوريوس النزيانزي



كانت الخطب اللاهوتية الخمسة (من 27- 31) سببًا في تلقيب ق غريغوريوس بلقب "اللاهوتي"، وتميزت بالبلاغة اللغوية والدقة الاهوتية المتناهية؛ وسميت بالخطب اللاهوتية لأنها تتحدث بالأساس عن الله وصفاته ووحدته.
الخطبة الأولى (27): شروط مناقشة الحقائق اللاهوتية
يصدم ق غريغوريوس كبرياءنا عندما يقول: "ليس لكل إنسان أن يتفلسف (بالمعنى الإيجابي) في شأن الله" (27: 3). هو لا يريد أن يمتنع الناس عن التكلم عن الله، بل يقول "علينا أن نذكر الله أكثر مما نتنفس" (4). هو ببساطة يريد ممن يتحدثون في اللاهوت أن يكونوا لاهوتيين بالمعنى الحقيقي، هؤلاء الذين تطهروا، او على الأقل بدأوا طريق الطهارة، وأن يراعوا مع من يتكلمون، والتوقيت، والقدر الذي يتكلمون به. كأنه يصف ما نراه اليوم على مواقع التواصل الإجتماعي التي تحولت إلى منصات جدل عقيم ومشاجرات لفظية في بعض الأحيان، والقضية الأساسية (عن الله) تموت. وأسبابه في ذلك، أننا نعطي صورة سيئة للمخالفين عنا، ونعثر الضعفاء من ناحية أخرى: "لماذا تلف الضعفاء بخيوط عناكبك، كما لو كان في الأمر شطارة وموضوع افتخار؟" (9)
الخطبة الثانية (28): طبيعة الله وصفاته
يناقش ق غريغوريوس أننا لا نستطيع أن نحيط الله علمًا، بل إننا في معرفتنا لله نشبه موسى الذي صعد على الجبل ودخل الجبل "ليرى قفا الله، محتميًا بالصخرة، أي الكلمة الذي صار جسدًا" (28: 3). نحن لا نرى الطبيعة الخالصة لله، "بل ما يقع من الطرف"، لأن "التعبير عن الله مستحيل، إن إدراكه أشد استحالة" (4). لكن بالنظر إلى الطبيعة نستنتج صورة تقريبية عن الله؛ فنرى أنه "ليس له جسد.. وليس من العنصر الخامس كالملائكة". ثم ينتقل من الكلام بالنفي، ويقول "ليس كافيًا أن نتوقف عن قول ما ليس هو... بل يجب علينا، بعد قول ما ليس هو، أن نقول أيضًا ما هو" (9). أي لابد أن ننتقل من اللاهوت الأبوفاتي (السلبي) إلى اللاهوت الكتافاتي (الإيجابي). لأنه بيقول إن اللاهوت السلبي عامل زي واحد بيسأل ما هو مجموع 5 + 5 ويكون الرد لا هو 2، ولا 3، ولا 4، ولا 5، ولا 20.  (28: 9).
يشرح ق غريغوريوس أن العقل تجاوز عبادة الأوثان من خلال النظر إلى انتظامية الكون والتناغم بين المخلوقات. ويقول: "هذا العقل ارتقى بنا إلى الله انطلاقًا من الكائنات المنظورة" (28: 16). ثم يشرح إن ظهورات العهد القديم كانت نسبية وليست مشاهدة تامة (18). وهناك ظهورات للأنبياء كانت مجرد اختبار لحضور الله وليس إدراك طبيعته إدراكًا كاملاً. حتى في العهد الجديد يقول حتى بولس أقصى ما يتمناه أن يدرك أحكام الله وليس طبيعته.
ثم يقودنا في رحلة عبر الحيوانات بأنواعها البرية والبحرية، بلغة تصويرية جميلة، كأنك بتتفرج على ناشيونال جيوجرافيك. عن جمال الطاووس، والذكاء الفطري لدى الحيوانات، والبناء السداسي للنحل، والبناء الهندسي للعنكبوت. ثم يقول: "الطبيعة بسطت أمامك كل شيء، وكأنه وليمة أعدت للجميع؛ بسطت الضروري كما بسطت الممتع، إذا أخلصت الرؤية نرى الله في صنائعه ويبعث فيك فقرك مزيدًا من الفطنة والتيقظ." (28: 26). ثم ينتقل إلى التأمل في الشمس، والقمر، والتجمعات النجمية، والبحر، واتساعه، والهواء والسحب وانحباس المياه فيها.
الخطبة الثالثة (29): وحدة الجوهر للأقانيم الثلاثة
يقول إن وحدانية الله (مونارخية) قائمة على الكرامة المتساوية والاتفاق في الإرادة بحيث "إن وجد اختلاف في العدد، لا يوجد أي تفسخ في الجوهر" (29: 2). توجد مساواة في الأزلية بين الابن والابن، فلا بداية للأبن، ولا بداية لأبوة الآب. وللرد على قصة هل ولد الابن بإرادة الآب أو بغير إرادة؟ يقول إن "الولادة فوق الإرادة"، ويقول "إن وجد المريد والمراد داخل الله.. لأصبح قابل للتقسيم" (29: 7). أما بشأن كيفية الولادة فهي عصية على الفهم، وحتى الملائكة يجهلون ذلك. الكيف يعرفه الآب الذي ولد والابن الذي ولد "وما فوق ذلك محجوب وراء غمامة" (8).
ثم يسرد ق غريغوريوس مجموعة من الآيات الكتابية التي تؤكد لاهوت الابن، ثم يفند الآيات التي يتسلح بها الهراطقة. ويقول قاعدة آبائية هامة، وهي "أرجع ما هو أسمى إلى الألوهة، إلى الطبيعة التي هي فوق الأهواء وفوق الجسد، وما هو دون ذلك إلى المركب التجسدي" (29: 18).
الخطبة الرابعة (30): دحض الآراء الأريوسية
يبدأ غريغوريوس في تطبيق قاعدته اللاهوتية مؤكدًا عليها كالتالي: "وجهنا الألفاظ الأشد سموًا والأكثر جدارة لله، وما كان أشد وضاعة وبشرية وجهناه إلى مَن كان لأجلنا آدم الجديد والإله المتألم بسبب آثامنا." (30: 1) ثم يسرد بعض النصوص الكتابية المختلف عليها مع الأريوسيين بالأخص كما يلي:
أم 8: 22 "الرب قناني (خلقني) أول طرقه"
بيميل ق غريغوريوس أن الآية بتتكلم عن الحكمة والكلام رمزي زي ما بنقول "السموات تحدث". لكنه بيرجع يفترض أنها بتتكلم عن المسيح (الحكمة الحقيقية). بيقول: "الله ليس له علة.. لكن الجسد المخلوق للابن له علة" والعلة غائية "هي خلاصنا". وبالتالي "ما نجده مع العلة نرده إلى الطبيعة البشرية. وما نجده بسيطًا بغير علة نرده إلى الألوهة" علشان التعبير "خلقني" مرافقًا للعلة.
وبيقول لما سفر الأمثال قال "ولدني" لم يذكر السبب/ العلة. في أم 8: 25 قبل التلال ولدني (سبعينية).. وده نفس كلام ق أثناسيوس في ضد الأريوسيين.
1كو 15: 25 "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه"
الأريوسيين قالوا ماذا يكون بعد ذلك؟ أيكون انتهاء لملكه أم سيطرد من السماوات"
بيقتبس ق غريغوريوس من لو 1: 33 "ولا يكون لملكه انقضاء"
ثم يفسر كلمة "حتى" (دكتوراة في حتى).. وبيقول إن "كلمة حتى لا تحد الزمن المستقبل حدًا مطلقًا".. وبيجيب آية "ها أنا معكم إلى (حتى) انقضاء الدهر" (مت 28: 20).. وبيشرح أن خضوع المسيح معناه إتمام مشيئة الآب.
عب 5: 8 "تعلم الطاعة بما تألم به"
والكلام عن أنه قدم صراخ ودموع..
بيقول إنه لما يكون الابن في صورة العبد فهو "يتنازل إلى مستوى إخوته في العبودية ومستوى العبيد، فيأخذ صورة غريبة عنه، ويحملني في ذاته.. حتى يذيب فيه ما في من شر كما تذيب النار الشمع.. وحتى اشترك في هذا الاختلاط فيما له." (30: 6)
آية "أبي أعظم مني"
كذلك "إلهي وإلهكم" يو 20: 17
وكذلك اف 1: 7 "ليعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد... "
قال المقصود بيها الابن من حيث هو إنسان. وقال زي ما قال أعظم قال مساو.. "أليس من الثابت أن الأعظم للعلة وأن المساوي للطبيعة؟" (30: 7)
يو 5: 19 "الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئًا"
بيقول إن ده مش معناه العجز وإنما الاستحالة.. زي ما بنقول 2 +2 لا يمكن يكون 14. وبيجيب آيات كتابية فيها المعنى ده.. "لا يمكن أن تخفى مديمة مبنية على جبل" (مت 5: 14)، و"هل يقدر بنو العرس أن يصوموا" (مت 9: 15)، و"لم يقدر أن يصنع هناك شيئًا من القوات لعدم إيمانهم.. "(مت 13: 58)
يو 14: 24 "أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته"
هو بيقول الإله الحقيقي وحدك علشان في حاجات تانية تحمل اسم الله وليسوا بآلهة.. ولو قصد أن يستبعد الابن مكنش اضاف "ويسوع المسيح الذي أرسلته" (30: 13)
عن الابن الذي يشفع فينا.. كأنه بيركع من أجلنا..
الروح أيضًا يشفع فينا
فهو يشفع فينا بحكم أنه لا يزال مع الجسد الذي اتخذه..
عدم علمه بالساعة
بيطيبق نفس القاعدة، وبيقول: "يعرف كإله، وأنه بقوله لا يعرف يشير إلى الإنسان" (30: 15)
وبيقتبس من ق باسليوس أنه قال: "لا يعرف اليوم أو الساعة على غير معرفة الآب لهما" ثم يؤكد أن كل التعبيرات المشبوهة "ترجع إلى الطبيعة المتألمة لا إلى الطبيعة التي لا تخضع للتحول، ولا يدركها ألم"

الخطبة الخامسة (31): دفاع عن ألوهية الروح القدس
قال الهراطقة "من أين تأتينا بهذا الإله الغريب الذي ليس له في الكتاب اي أثر؟" وكانوا يعتبرون الروح القدس مخلوقًا، لكنه قال "إن كان من رتبتي فكيف يصيرني إلهًا" (31: 5) ثم يثبت أن الروح القدس شخص وليس قوة أو صفة، فهو يفرز للخدمة، ويحزن، ويغضب، وهذه لا تنطبق على المخلوقات. ثم يؤكد مرة أخرى على استحالة شرح هذا الانبثاق. وأي "انتقاص تلحقه بالثلاثة تلغي به الكل" (31: 12). لاحقًا يثبت ألوهة الروح القدس بأنه الوحيد الذي لا يغتفر التجديف عليه (مت 12: 31)، وفي قصة حنانيا وسفيرة قبل أنهما كذبا على الروح القدس، وعلى الله (أع 5)
ثم يتحدث على فكرة الإعلان المتدرج ويشرح وجود 3 زلازل كبيرة: من الاوثان إلى الناموس، ومن الناموس إلى الإنجيل، ومن الإنجيل إلى الملكوت الأبدي. (31: 25) لماذا يكون الإعلان متدرجًا؟ "كان علينا أن نقتنع لا أن نُكره، لأن ما يخالف الإرادة لا يدوم" (31: 25). "العهد القديم أعلن الآب في وضوح والابن في غموض. العهد الجديد أعلن الابن، وألمع بألوهة الروح القدس" (31: 26). لابد ان يسير الأمر تدريجيًا وإلا صار حسب تشبيه ق غريغوريوس كالأكل الثقيل. أما إذا جرى الأمر بالمراقي (الصعود تدريجيًا) "فإن نور الثالوث يتلألأ أكثر فأكثر."   
في النهاية يتحدث عن فكرة التشبيهات التي نسوقها عن الثالوث، ويبين عجزها وقصورها ويتحفظ عليها. فهو يتحفظ على تشبيه الينبوع والجدول والنهر "لأنهم شيء واحد يتخذ أشكالاً مختلفة"، ويتحفظ أيضًا على تشبيه الشمس والشعاع.
على هامش الكتاب
-       عجبني اقتباساته الكثيرة من أفلاطون، ويقول "إني أوافق على قول القائل، وإن كان القائل من غير جماعتنا"
-       كان بيتكلم عن الطوفان اللي أغرق العالم وقال بالأحرى أغرق "نواة العالم" (28: 18).. هل هنا يقصد طوفان محلي محدود.. محتاجة بحث.
-       وصف الإنسان بأنه كون مصغر (microcosm) علشان أحد الآباء الموقرين انتقد الفكرة دي وقال أنها مستمدة من تعاليم اليوجا وخلافه. "هذا العالم المصغر الذي هو الإنسان" (28: 22).
-       كلامه عن التأله في أكثر من موضع لإثبات ألوهية الابن والروح القدس. وتأله الإنسان باختصار هو "الاتحاد بالله" بفضل التجسد، فهو يقول: "أصبح أنا إلهًا بقدر ما أصبح هو إنسانًا" (29: 19). ويقول :"يدعى الله إنسانًا ويدعى الإنسان إلهًا بسبب اتحاد الإنسانية والألوهة" (صفحة 132)
-       زي ما في تلميح للنظرية الشفائية للخلاص، في تلميح للبدلية العقابية فبيقول في (30: 21): "اتخذ في ذاته ما كان محكومًا عليه، لكي يحرر الكل من ربقة الحكم، وذلك عندما صار للجميع كل ما نتحن عليه- ما عدا الخطية- جسدًا ونفسًا وروحًا".
-       أختم كلامي بكلام ق غريغوريوس الجميل على الطاووس "هذا الطائر المتغطرس.. من أين له هذه الأناقة الفريدة والاعتداد بالنفس، بحيث أنه وهو المدرك لكل ما أوتي من جمال، إذا أبصر مقتربًا، أو إذا مر أمام إناثه، نصب عنقه، ونشر ذنبه من طيه، بريش كالذهب الوهاج نثرت عليه الكواكب" (28: 4). هذا الحيوان الجميل تحدث عنه ترتليان أيضًا "فإن الطبيعة هي المعلم والنفس هي التلميذ. فوردة برية واحدة، ولا أقول وردة جميلة من بستان، وأية صدفة على البحر، ولا أقول لؤلؤة من البحر الأحمر، وأية ريشة لطائر، ولا أقول ريشة طاووس، لا يمكن أن تكشف بأن خالقها شرير" (ضد ماركيون 1: 13: 5). الغريبة أن دارون صاحب نظرية التطور قال إن " a feather in a peacock's tail makes me sick إن ريشة الطاووس تصيبني بالغثيان." لماذا؟ سبحان الله! ربما لأن ريشة الطاووس تهدم نظريته! 
   

هناك تعليق واحد:

  1. رائعة يا د/عادل...الله يعطيك نعمة و يعوضك خير

    ردحذف