الخميس، 5 يونيو 2025

ق ساويرس الأنطاكي، ضد يوليان، الجزء الأول

 

هل آلام المسيح بإرادته أم رغمًا عنه؟
وهل الآلام يستجلبها من الخارج أم من داخل طبيعته؟

 هل الكلام عن التابوت المغشى بالذهب يُفهم منه إن جسد المسيح كان غير قابل للفساد (الألم والموت)؟

هل في فرق بين الفساد وقابلية الفساد؟

هنجاوب على الأسئلة دول والإجابة موجودة كلها في كتاب "ضد يوليان، ج1" واللي تُرجم بمعرفة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، عن الفرنسية، بواسطة مجموعة من المترجمين، في 400 صفحة. الترجمة ممتازة، والعبارات سلسلة، وسهلة القراءة، بشكل عام.  



 يوليان كان بيقول بحسب ق ساويرس إن جسد المسيح قبل القيامة ”لم يكن معرضًا للآلام غير الملومة، وغير قابل للتألم“ (ضد يوليان، ج1، 141). وفي نفس الوقت يوليان كان بيقول إن جسد المسيح قبل القيامة كان غير قابل للألم (الآلام غير الملومة) لكن... ”سمح، كما بإرادته أن يتحمل ما هو لائق به“ (ضد يوليان، ج1، 148).

ق ساويرس في نفس الوقت بيتفق مع يوليان إن تحمل الكلمة للآلام غير الملومة كان بإرادته، وليس بضرورة الطبيعة. بيقول ق ساويرس مثلاً ”لم يبخل بابنه... عن أن يتألم لأجلنا في الجسد إراديًا وليس بضرورة الطبيعة“ (ضد يوليان، ج1، 369). يعني التأكيد على إرادة الكلمة في تحمل هذه الآلام لا خلاف عليه. فعلاً إحنا كبشر تحت الضعف يجتاحنا الضعف بالضرورة، لكن الكلمة يسمح به حرًا مريدًا. ق ساويرس كعادته بيقتبس من آباء كثيرين علشان يأكد فكرته. فبيقتبس من ق كيرلس اللي بيقول ”أراد كلمة الله... أن يصير إراديًا تحت ناموس الطبيعة، ويضع ذاته بإرادته تحت أسباب الآلام الضرورية“ (ضد يوليان، ج1، 205). يعني شوف ق كيرلس بيقول إيه؟ يضع نفسه إراديًا تحت الآلام الضرورية! وبيقتبس من ق كيرلس تاني اللي بيقول ”أتاح لجسده أن يكون في ناموس طبيعته“ (ضد يوليان، ج1، 204)، وأيضًا ”سمح لجسده إراديًا أن يتألم وفق طبيعته“ (ضد يوليان، ج1، 203). وبيقتبس من ق يوحنا ذهبي الفم اللي بيقول ”لم يكن (المسيح) خارج الآلام البشرية... كان للمسيح جسد طاهرٌ من الخطية، وليس جسدًا عادمًا للاحتياجات الطبيعية، وإلا فما كان على أية حال جسدًا“ (ضد يوليان، ج1، 257). يبقى لازم الجسد يكون عنده الاحتياجات الطبيعية متأصلة فيه بشكل طبيعي، مع الاحتفاظ بإرادة الكلمة في إدراتها.

ق ساويرس بيأكد مرة أخرى ”لم يكن (الكلمة) بعيدًا عن مشاركتنا، عندما خضع وسمح لجسده، إراديًا، أن يسلك بحسب ما يليق بطبيعته في كل مرة بدا له فيها أن هذا حسن.. هكذا رغب في الأكل، وكان قابلاً لألم الجوع.. وتقبّل أيضًا ألم الخوف والاضطراب والحزن...“ (ضد يوليان، ج1، 152). ويقتبس للنيسي قوله ”لم يعتبر الجوع إثمًا، ولم يستثنِ ألم الجوع عن تجربته، بل قَبَل رغبة الطبيعة القوية إلى الطعام. لأنه لما مكث أربعين يومًا جاع أخيرًا، أذ يمنح الطبيعة فرصةً -بحسب إرادته- لتعمل ما يخصها“ (ضد يوليان، ج1، 155).

ق ساويرس بيقول برضو ”الجوع هو ألم يؤدي إلى فساد الجسد (ويقصد الفساد الطبيعي، وليس فساد الخطية).. الجوع هو خاص بالجسد الفاسد والمتألم والمائت.. سمح وأراد (الكلمة) أن يسلك جسده الخاص بحسب الناموس الإنساني الطبيعي كمتألم وفاسد“ (ضد يوليان، ج1، 159).

بناءً على ما سبق، مفيش خلاف على أن الألم الجسدي الطبيعي (سواء جوع، أو حزن، أو مسامير بتخترق الجسد) كلها آلام طبيعية غير ملومة، يعني ملهاش علاقة بالخطية، ولا تقلل من قداسة الابن. ومفيش خلاف على أن الآلام دي قبلها الابن حرًا مريدًا وليس بالطغيان عليه غصبًا. لكن الاقتباسات السابقة توضح شيء مهم وهو إن الآلام دي مش من خارج طبيعة جسده، بل من طبيعة جسده الخاص بعينها. وده الفرق المهم بين فكر يوليان الخيالي وفكر ق ساويرس الأنطاكي. خلينا نوضحه في الجدول التالي:

يوليان الخيالي

ق ساويرس الأنطاكي

المسيح يقبل الآلام غير الملومة إراديًا.

زيه بالضبط: المسيح يقبل الآلام غير الملومة إراديًا.

هذه الآلام تأتيه من الخارج بحسب رغبة الكلمة وليس بصورة طبيعية.

هذه الآلام تأتيه من الداخل، من طبيعة الجسد نفسه، بحسب رغبة الكلمة وبصورة طبيعية.

الإرادة تستحضر الآلام من الخارج. لأن يوليان نفسه كان شايف إن جسد المسيح قبل القيامة غير قابل للتألم..

الإرادة تسمح للآلام الطبيعية أن تحدث كمجراها الطبيعي.

الإرادة هنا بتعمل عملاً مظهريًا أو خياليًا. لأن الجسد بالفعل غير قابل للتألم بحسب يوليان.

الإرادة بتعمل عملاً تدبيريًا.. يختبره الكلمة ويديره إراديًا من داخل الطبيعة البشرية نفسها ليشفيها.

 

جدير بالذكر أن يوليان كان شايف أن قابلية الألم في جسد المسيح ده معناها إن الآلام ستجتاح الجسد رغمًا عنه ... لكن ق ساويرس قال إن الكلمة بتسمح للآلام دي تمشي في مجراها الطبيعي لينتصر عليها ويشفيها.. وإن حركات الآلام دي موجودة طبيعيًا في الجسد، وغير مفتعلة من الخارج، لكنها تخضع لإرادة الكلمة المتجسد.[1]

السؤال التالي: هل الكلام عن التابوت المغشى بالذهب يُفهم منه إن جسد المسيح كان غير قابل للفساد (الألم والموت)؟

اللي حصل إن يوليان كان اقتبس من ق كيرلس ما يفيد –من وجهة نظره- إن جسد المسيح لم يكن فاسد منذ لحظة الاتحاد. والاقتباس ده يتضمن الكلام عن تابوت العهد المصنوع من خشب لا يسوس كرمز لجسد المسيح الذي لا يفسد –بحسب رأي يوليان.

المهم إن ق ساويرس قال ليوليان إنه اجتزأ القول.. لأنه لو كمّل هيفهم إن المقصود هنا بعدم الفساد هو عدم فساد الخطية (ومحدش قال أبدًا إن جسد المسيح فاسد.. فساد الخطية.. ده محصلش على الإطلاق). لكن قبل القيامة كان جسد المسيح فاسد (أو قابل للفساد- نفس المعنى) بمعنى أنه قابل للألم والموت. لأن ق كيرلس في الاقتباس ده قال إن "الكلمة اتحد بالجسد المقدس" وساويرس فاهم هنا إن "المقدس" معناها "من جهة القداسة وعدم الخطية" (ضد يوليان، ج1، 142).

ق ساويرس هيقتبس تاني من ق كيرلس من كتاله "السجود والعبادة" واللي اتكلم فيه برضو عن التابوت –الاقتباس اللي بيبدأ "فالتابوت بالنبسة لنا يا بالاديوس..." وبيقول فيه إن جسد المسيح كان غير فاسد وإنه محفوظ في عدم الفساد كما في الذهب، لكن كمالة الاقتباس كيرلس هيقول "أنه أحيا هيكله الخاص جاعلاً إياه أسمى من الفساد" (ضد يوليان، ج1، 143، 144). إيه ده؟ يعني قبل القيامة مكنش أسمى من الفساد؟ الإجابة: لو تقصد الفساد الأخلاقي: لأ، مكنش فاسد. لكن لو تقصد الفساد الطبيعي (القابلية للألم والموت): أيوه: فاسد.

ق ساويرس بيقول تاني نقلاً عن كيرلس.. إن المسيح في جسده "أزهر مرة أخرى ذاك الذي كان خاضعًا للموت والفساد، إلى الحياة" (ضد يوليان، ج1، 145). يعني بشكل واضح جسد المسيح قبل القيامة كان خاضع للموت والفساد.

هل في فرق بين الفساد وقابلية الفساد؟

إحنا لسه بنتكلم عن الفساد الطبيعي، الفساد الأخلاقي المرتبط بالخطية محدش قرب منه.. وفي إجماع من الجميع عليه. الحقيقة إن يوليان كان شايف إن حتى جسد المسيح مينفعش يكون قابل للفساد الطبيعي، لأن القابلية تؤدي حتمًا لوقوع الفساد نفسه. فكان عايز يلغي القابلية من أساسها علشان ميوضلش لهذه النتيجة. واعتمد في كده على الفرق بين كلمتين في اليوناني φθορά و διαφθορά واعتبر إن الأولى بمعنى فساد، والثانية بداية أو وسيلة الفساد.. بداية طريق الفساد.. أو  قابلية الفساد. لكن الكلام ده غير دقيق والقديس ساويرس هيعمل بحث كتابي يثبت فيه بالآيات الكتابية إن الكلمة التانية بتيجي بمعنى الفساد وليس قابلية الفساد زيها زي الكلمة الأولى.. بل على العكس، الكلمة التانية يتعني الفساد الكامل. على سبيل المثال آية مز 55: 23 بتقول  "وأنت يا الله تحدرهم إلى جب الفساد"  σὺ δέ, ὁ θεός, κατάξεις αὐτοὺς εἰς φρέαρ διαφθορᾶς، فهل ربنا هيحدرهم إلى قابلية الفساد أم الفساد الكامل (ضد يوليان، ج1، 119). وق ساويرس أورد آيات كتيرة جدًا يثبت فيها هذا الأمر.

تنويه:

أرجو من القارئ العزيز، ألا يتخد موقفًا من الكلام حتى يقرأ الكتاب المشار إليه كله (400 صفحة). وفي النهاية أرحب بأي تعليق جاد يراعي قدسية الأمور التي نتحدث فيها. 

 

 



[1] . ق ساويرس الأنطاكي، ضد يوليان، ج1، مجموعة من المترجمين، مركز دراسات الآباء، حاشية 381، ص 148، وحاشية رقم 992، ص 370.

الجمعة، 15 نوفمبر 2024

لوسيان الأنطاكي: شهيد أم مهرطق؟

 


مقدمة

تُعتبر شخصية لوسيان الأنطاكي، الذي استشهد عام 312م، من الشخصيات المحيرة في تاريخ الكنيسة، فالكنيسة الكاثوليكية تعيد له في السابع من يناير،[1] بينما تحتفي به الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في الخامس عشر من أكتوبر، بينما يعتبره بعض آباء الكنيسة أريوسيًا قبل أريوس نفسه، أو أساس ومنبع الأفكار الأريوسية، حتى أن أريوس كان يلقب نفسه ”لوسيانيًا“. فهل كان لوسيان مهرطقًا ثم عاد إلى حضن الكنيسة وتعاليمها القويمة؟ أم هل قام بشيء في أواخر أيامه جعلت البعض يغض الطرف عن أفكاره الهرطوقية؟ وماذا عن بطولته وشجاعته أمام الاستشهاد؟ كل هذا جعل البعض يتساءل هل لوسيان بطل Hero أم مهرطق Heretic؟ يحاول الباحث في هذه الورقة الإجابة بقدر المستطاع عن هذه الأسئلة.

لوسيان الأنطاكي من منظار إيجابي

1- رواية يوسابيوس القيصري:  من الروايات الإيجابية عن لوسيان ما قاله يوسابيوس القيصري في كتابه ”تاريخ الكنيسة“: ”وأمّا لوسيان، وكان قسًا في أبروشية أنطاكية، ممتاز جدًا في كل ناحية، عائشًا حياة نقية، واشتهر بسعة اطلاعه في الروحيات، فقد أُحضر إلى مدينة نيكوميديا، وتصادف أن كان الأمبراطور مقيمًا بها وقتئذٍ وبعد أن قُدم أمام الحاكم دفاعًا عن الإيمان الذي اعتنقه ألقى في السجن وحُكم عليه بالموت“ (تاريخ الكنيسة 9: 6: 3).[2]

2- رواية روفينوس المؤرخ: أمّا عن الدفاع الذي أشار إليه يوسابيوس القيصري، فينقله لنا المؤرخ روفينوس مطولاً في كتابه (تاريخ الكنيسة 9: 6)، فيقول روفينوس إن الحاكم سأل  لوسيان الرجل ”الممتاز في الأخلاق وضبط النفس والتعلُّم: لماذا وأنت إنسان ذكي ورزين تتبع شيعة لا يمكن أن تشرح إيمانها؟ فلمّا أعطي إذنًا للكلام شرح أن المسيحيين يؤمنون بالله، وأن مرجعيتهم بشأن الله هو الله نفسه! وأننا في السابق أخطأنا بالاعتقاد بأن الأوثان آلهة، لكن الله القدير أشفق على البشر ولبس جسدًا ليعلمنا عن الله خالق السماء والأرض. وأن موت المسيح مؤيد تاريخيًا في سجلات بيلاطس، وأن قبر المسيح يشهد لقيامته، وأن الشمس نفسها شاهدة على موت المسيح عندما حجبت نورها وقت الصلب. ثم نجد لوسيان يحث الحاكم بأن يبحث في كتب التواريخ ليتأكد بنفسه من هذه الأحداث. ثم يقول روفينوس أنه لما بدأ الحضور يقتنعون أسرع الحاكم بإلقائه في السجن والحكم بموته.[3]

نحن هنا أمام عقلية مثقفة أكاديمية، تلتمس الأدلة التاريخية للدفاع عن حقائق الإيمان المسيحي، فضلاً عن  كونه إنسانًا مسيحيًا محبًا لدينه ومدافعًا غيورًا عن إيمانه، ومستعدًا للموت في سبيل ذلك، كما أننا لا نجد أثرًا لتعليم أريوس أو بولس الساموساطي فيما قاله حتى الآن، كل هذا مع مراعاة أن أصالة هذه الدفاع المطول الذي قدمه روفينوس هي محل شك وفقًا لعالم الآبائيات كواستن.[4]

3- رواية القديس جيروم: ينتمي ق جيروم إلى التقليد اللاتيني لروفينوس، لذا نتوقع أن يقدم لنا مثله لوسيان في رواية إيجابية. بالفعل يقول ق جيروم عن لوسيان في كتابه الشهير ”مشاهير الرجال“ ما يلي: ”اهتم لوقيانس الخطيب المفوه وكاهن كنيسة أنطاكية بدراسة الكتب المقدسة، حتى أن اسمه لا يزال مرتبطًا ببعض نسخها إلى هذا اليوم. كما وصلتنا منه بعض المباحث الصغيرة في الإيمان، إضافة إلى عدد من الرسائل القصيرة. وقد تألم شهيدًا في نيقوميديا؛ إذ اعترف بالمسيح إبان اضطهاد مكسيمينس. أما قبره فموجود بهيلانوبوليس في بثينية“ (مشاهير الرجال 77).[5] 

ق جيروم يلفت النظر هنا إلى إسهامات لوسيان في مجال الدراسات الكتابية. وهذا أمر يعترف به أهم علماء علم النقد الكتابي بروس ميتزجر الذي يتحدث عن النص اللوسياني المنقح Lucianic recension، وهو نص منقح لترجمة يونانية للنص العبري للعهد القديم. وهذا النص مهم جدًا في الدراسات اللغوية النقدية للكتاب المقدس. ق جيروم في رسالته رقم 106 يشير إلى وجود هذه النسخة المنسوبة إلى لوسيان وكانت منتشرة حتى وقت جيروم نفسه، وإن كان جيروم يفضل نسخة الهكسابلا الخاصة بأوريجانوس على نسخة لوسيان.[6]

لكن ميتزجر يمدنا ببعض المعلومات الهامة عن لوسيان، ويقول ميتزجر إن لوسيان ربما كان يتعاطف مع الآراء اللاهوتية لبولس الساموساطي ابن موطنه. لكن عندما عُزل بولس الساموساطي عام 268م لتعاليمه الخاطئة عن طبيعة المسيح، انسحب بولس عن الكنيسة ومعه لوسيان أيضًا. لكن ميتزجر يقول ”خلال السنوات الأخيرة يبدو أن لوسيان أصبح أكثر أرثوذكسية، وأُعيد إلى شركة الكنيسة في أسقفية كيرلس الأنطاكي (283- 304). ومات في كنف الكنيسة، وتحمل الاستشهاد من أجل الإيمان في نيقوميديا، بيثينيا، في 7 يناير 312م تقريبًا“.[7]  

4- رواية المؤرخ سوزومين: في كتابه ”التاريخ الكنسي“ يتحدث سوزومين عن مجمع أنطاكية المسمى بمجمع التدشين والذي انعقد حوالي عام 340- 341م لتدشين كنيسة جديدة هناك، وكان حزب اليوسابيوسيين يسعى لاستغلال هذه المناسبة وحضور الإمبراطور ليلغي قانون إيمان نيقية. وفي هذا المجمع استخدموا عبارات مبهمة دون الاعتراف بمصطلح هوموأوسيوس. ويقول سوزومين أنهم اعترفوا بأن الابن غير متغير وأنه قوة الله ومجده، وقالوا بإن هذه الصيغة وجدوها ”مكتوبة بالكامل بواسطة لوكيانوس الذي كان شهيدًا في نيقوميديا، وكان رجلاً مختبرًا جدًا ودقيقًا للغاية في الأسفار المقدسة“، ثم يعلق سوزومين قائلاً ”ولا أعرف ما إذا كانت هذه الصيغة حقيقية أم لا، أو أنهم قدموها هكذا لكي ما يُعطوا لوثيقتهم وزنًا عندما ينسبونها إلى شهيد له كرامته“ (التاريخ الكنسي 3: 5).[8]

بالطبع تظهر هنا فكرة أساسية في هذه الحقبة، وهي أن كل الأطراف المتصارعة كانت تتلهف لنسب أفكارها لشخصيات بارزة لها وزنها. رأينا هذا بكثرة عند الأريوسيين الذين حاولوا أن ينسبوا تعاليمهم إلى البابا ديونسيوس الكبير مرة، وإلى العلامة السكندري أوريجانوس مرة أخرى. ولقد قام البابا أثناسيوس بالرد على ذلك، والدفاع عن صحة تعاليم البابا ديونسيوس الكبير، وبمدح أوريجانوس ومحبته للتعب. لكن إحقاقًا للحق أن البابا ديونسيوس كان قد أخطأ في بعض التعبيرات ولم يتوخَ الحذر فيها لكنه رجع وصحح ما قاله ليتوافق مع الإيمان الأرثوذكسي، وهذا ما أوضحه البابا أثناسيوس.[9] أمّا العلامة أوريجانوس فحتى إذا مدحه البابا أثناسيوس لصحه إيمانه من جهة الولادة الأزلية للابن، إلا أن هذا المدح لا ينسحب على كل أفكار أوريجانوس. وبناء على ذلك، نحن هنا قد نكون أمام حالة مشابهة، ربما أخذ الأريوسيون من لوسيان بعض عباراته الصحيحية في مجملها وفي نفس الوقت يستفيدون من كونه شهيدًا مات مدافعًا عن الإيمان المسيحي، مستغلين المكانة الرفيعة التي كانت تمنحها الكنيسة للشهداء. الشيء الجميل هنا أن المؤرخ سوزومين يُظهر عدم يقينه بشأن التعليم الذي قال به لوسيان.

5- رواية ق يوحنا ذهبي الفم: ذهبي الفم له عظة بعنوان ”عن القديس لوسيان“ قدمها في 7 يناير من عام 387م تقريبًا، أي بعد 75 سنة من استشهاد لوسيان. وهو يمتدح فيها لوسيان الشهيد، ويحكي طريقة موته بالتجويع، واصفًا ذلك بأبشع وأقسى أشكال الموت. في الفقرة (8) من العظة يحكي كيف أن الحاكم استدعاه بعد تعذيبه، وأخذ يحقق معه، فلم يكن يجيب إلا بإجابة واحدة: ”أنا مسيحي“. ”من أي بلد أنت؟ أنا مسيحي. ما هي مهنتك؟ أنا مسيحي. من هم أبواك؟ أنا مسيحي“. ثم يشرح ذهبي الفم كيف أن هذه الإجابة القصيرة تجيب عن الاسئلة الثلاثة السابقة، فالمسيحي ليس له وطن غير أورشليم السمائية. وليس له شغل في الأرض إلا الوصول إلى السماء، وليس له أقارب إلا رعية القديسين وأهل بيت الله (أف 2: 19).[10]

6- رواية المؤرخ الأريوسي فيلوستورجيوس: في كتابه ”تاريخ الكنيسة“ يذكر فيلوسترجيوس أن الملكة هيلانة شيدت مدينة على خليج نيقوميديا وسمتها هيلينوبوليس. ويذكر أن هذه المدينة كانت هيلانة تعتز بها لأن لوسيان الشهيد دُفن فيها بعد أن قذف دولفين جثته بعد استشهاده.[11] وهذه رواية مختلفة عن استشهاده بالإغراق وليس التجويع التي ذكرها يوحنا ذهبي الفم. الجدير بالذكر أيضًا أن فيلوستروجيوس عندما سرد بعض تلاميذ لوسيان لم يذكر أريوس من بينهم. وهذا ما جعل بعض الدراسين المحدثين من أمثال فرانسيس يونج وروان وليامز وجون بير يشككون في وصف لوسيان بأنه ”أريوسي قبل أريوس“.[12]

7- رواية مار ساويرس الأنطاكي: يقول مار ساويرس الأنطاكي عنه: ”لوسيان الشهيد، الصديق المطوب في التعب“، ويذكره كحجة ومرجعية مساوية لمرجعية ”أبائنا السريان المطوبين، ما إفرام ومار يعقوب ومار إسحق ومار اخسنايا (فليكسينوس)“ (Hom. 123, Pat. Or. xxix).[13]

لوسيان الأنطاكي من منظار سلبي

1- رواية البابا ألكسندروس:  من الروايات السلبية عن لوسيان رسالة فصحية كتبها البابا ألكسندروس السكندري وصف فيها لوسيان -بعد استشهاده ب 10 سنوات- بأنه خليفة بولس السموساطي، وينقل ثيؤدوريت في تاريخه (تاريخ الكنيسة 1: 4) جزءًا من كلام البابا ألكسندروس حيث يقول إن لوسيان ”ظل خليفته ... لفترة طويلة محرومًا تحت ثلاثة أساقفة“.[14] وبهذا يربط البابا ألسكندروس ببولس الساموساطي. ثم يعود ويقول البابا ألكسندروس أن بقايا كفر هؤلاء الهراطقة ”امتصها أريوس وأخيلاس وكل عصبة رفقائهم في الخبث“.[15] وهو بذلك يربط لوسيان بأريوس والأريوسية. من ناحية أخرى، أريوس نفسه ربط نفسه بلوسيان، ففي رسالة منه إلى يوسابيوس النيقوميدي يصف أريوس يوسابيوس بأنه ”رفيقه اللوسياني“، وهو ما يعني أن أريوس ويوسابيوس النيقوميدي درسا في مدرسة لوسيان ويفاخران بذلك.

2- رواية إبيفانيوس أسقف سلاميس: يخبرنا ق أبيفانيوس أن الأريوسيين ”أخذوا مرجعيتهم من لوكيان وأوريجانوس.[16] أيضًا ق إبيفانيوس في كتابه ”الأنكوراتس/ المرساة“ يخبرنا بما يزيد من الربط بين لوسيان وأريوس وبولس الساموساطي بل وأبوليناريوس بعد ذلك حيث يقول إن ”لوقيان وكل اللوقيانيين ينكرون أن ابن الإنسان قد اتخذ نفسًا، ويقولون إنه امتلك جسدًا فقط“.[17] وبالتالي بحسب لوسيان يكون ناسوت المسيح منقوصًا. الروايتان السابقتان جعلتا عالم الآباء كواستن يقول إن ”لوسيان هو أبو الأريوسية، لذلك لم تكن جذور تلك الهرطقة في الإسكندرية بل في أنطاكية“.[18] يمثل رأي كواستن الكثير من الدراسات القديمة ويؤيدها أيضًا المؤرخ أدلوف هارناك بقوله ”إن هذه المدرسة (مدرسة لوسيان) هي حضانة العقيدة الأريوسية، ولوسيان رأسها هو أريوس قبل أريوس نفسه“.[19]

تعقيب على النوعين من الروايات

أحد الدارسين يُسمى C. E. Raven يرى التقارير المتعارضة عن شخصية لوسيان ويحاول أن يقدم تفسيرًا لذلك ويصل إلى نتيجة مفادها هي أن لوسيان لم يكن أريوسيًا، لكن على الأرجح حدث تطور في فكر لوسيان من موقف مناصر لبولس الساموساطي إلى موقف مناصر لأوريجانوس (حيث يعتبر الفكر الأريوسي مزيج من فكر بولس الساموساطي ومبالغة في فكر أوريجانوس). وأن لوسيان اضطر أن يطور من آرائه من اعتبار الابن مجرد صفة أو مَلكة للآب (رأي الساموساطي) إلى اعتبار الابن أقنومًا (رأي أوريجانوس).[20] وبالتالي كانت له بعض الأفكار التي لا تتوافق مع الإيمان الأرثوذكسي في مرحلة ما من حياته.

من ناحية أخرى، يحاول بعض الدارسين أن يروا أن استشهاده بهذه الطريقة البطولية السابق وصفها تغفر له حتى أفكاره الهرطوقية. المؤرخ فيليب شاف يتبنى مقاربة مشابهة ويقول: ”التقارير المتعارضة يمكن توفيقها بسهولة بفرضية أن لوسيان كان دارسًا ناقدًا له بعض الآراء الخاصة عن الثالوث والخريستولوجي والتي لم تكن متوافقة مع الأرثوذكسية النيقاوية اللاحقة، لكنه مَحى كل الوصمات باعترافه البطولي واستشهاده“.[21] كما يشير فيليب شاف إلى أن البعض يميِّز بين اثنين لوسيان؛ واحد أرثوذكسي، والآخر هرطوقي، لكنه يعود ويؤكد إن هذه فرضية لا أساس لها.[22] وربما هذا ما جعل المؤرخ أسد رستم يقول ”جاء استشهاد لوقيانوس في السنة 312 فغسلت معمودية الدم ذنوبه ورفعته إلى مصاف الشهداء“.[23] كأن أخطاء لوسيان نُسيت بسهولة بسبب استشهاده البطولي. أمّا القمص تادرس يعقوب ملطي، على عكس النظرة السابقة، يقول إن بعض الدارسين يذكرون أن لوسيان ”ثاب إلى رشده ورجع إلى الحق والإيمان القويم، فأعاده البطريرك كيرلس (ثالث بطريرك على أنطاكية بعد بولس الساموساطي) إلى رتبته السابقة وأقامه رئيسًا للمدرسة الأنطاكية“.[24]

خاتمة

بالنظر إلى النوعين من الرويات الإيجابية والسلبية عن شخصية لوسيان الأنطاكي، نجد أن الرويات الإيجابية أكثر عددًا واتساعًا وعلى رقعة زمنية أكبر. وحتى الروايات السلبية يُمكن تفهمها على أنها تتحدث عن الفترة التي كان فيها لوسيان الأنطاكي متبنيًا لأفكار غير أرثوذكسية، لكنه في مرحلة لاحقة ثاب إلى رشده. والسبب في هذا أن الأفكار حتى وإن مات صاحبها فإنها لا تكف عن الوجود وتجد آخرين يطورونها ويبنون عليها مناهج فكرية أكبر. وبالتالي علينا مراعاة المراحل المختلفة من حياة لوسيان. وهذا يؤكد حقيقة نراها بكثرة في تاريخ العقيدة المسيحية، وهي أن الأوريجانية مثلاً أكبر من أوريجانوس نفسه، لأن أتباعه من بعده طوروا في أفكاره. وكذلك الأريوسية أكبر من آراء أريوس نفسه لنفس السبب. وبالتالي يمكننا القول بأن الهرطقة heresy هي أكبر من مؤسسها heresiarch.  



[1]. Alban Butler, Paul Burns, Butler's Lives of the Saints, Volume 1 (London: Liturgical Press, 2003), 51.

[2] . يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، تعريب القمص مرقس داود (القاهرة: مكتبة المحبة، 1979)، 459. 

[3]. Rufinus of Aquileia, History of the Church, translated by Philip R. Amidon, SJ (New York: Oxford University Press, 1997), 354- 355.

[4]. جوهانسن كواستن، علم الآبائيات "باترولوجي"، ترجمة د. جرجس يوسف، المجلد الثاني (القاهرة: بناريون للنشر، 2017)، 155.

[5]. القديس هيرونيمس (جيروم)، مشاهير الرجال، ترجمة جوزيف كميل جبارة (لبنان: دار المشرق، 2010)، 94- 95.

[6]. القس يوحنا عطا (مترجم)، خطابات القديس جيروم، الجزء الرابع من 79- 114 (القاهرة: مدرسة الأسكندرية للدراسات المسيحية، 2021)، 192- 193.

[7]. Bruce M. Metzger, Chapters in the History of Mew Testament Textual Criticism, (New Testament Tools and Studies, 4), (Leiden: E. J. Brill, 1963), 1.

[8]. الأب بولا ساويرس (تعريب)، التاريخ الكنسي لسوزمينوس (جنوب سيناء: دير القديس موسى النبي، بدون تاريخ)، (نسخة إلكترونية)، 845. جدير بالذكر أن هذا القانون يذكره كل من ق أثناسيوس (De Synod 23) والقديس هيلارس أثقف بواتييه (De Synod 29) دون الإشارة إلى أن كاتبه هو لوسيان الأنطاكي.

[9]. البابا أثناسيوس الرسولي، عن رأي ديونسيوس، ترجمة عادل زكري (نسخة إلكترونية، 2021). 

[10]. St John Chrysostom, The Cult of the Saint: Select homilies and letters introduced, translated and annotated by Wendy Mayer with Bronwen Neil (Crestwood, New York: St Vladimir’s Seminary Press, 2006), 71- 72.

[11]. Philostrogius, Church History, translated by Philip R. Amidon, S. J, (USA: Society of Biblical Lit, 2007), 29- 30.

[12]. John R. Tyson, The Great Athansius: An Introduction to His Life and Work (Eugene, OR: Cascade Books, 2017), 52 e. edition.

[13]. D. S. Wallace-Hadrill, Christian Antioch: A Study of Early Christian Thought in the East (New York, Cambridge University Press, 1982), 87.

[14] . جوهانسن كواستن، علم الآبائيات "باترولوجي"، المجلد الثاني، 156. 

[15] . جوهانسن كواستن، علم الآبائيات "باترولوجي"، المجلد الثاني، 156.

[16]. إبيفانيوس أسقف قبرص، باناريون: ضد الهرطقات، ترجمة القس بولا رأفت عزيز، الجزء الثالث (القاهرة: المؤلف، 2024)، 147.

[17]. إبيفانيوس أسقف سلاميس، أنكوراتوس (المثبَّت بالمرساة)، ترجمة راهب من دير أنبا أنطونيوس (البحر الأحمر: دير القديس أنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، 2018)، 223.

[18]. جوهانسن كواستن، علم الآبائيات "باترولوجي"، المجلد الثاني، 156.

[19]. John R. Tyson, The Great Athansius: An Introduction to His Life and Work, 52.

[20]. D. S. Wallace-Hadrill, Christian Antioch: A Study of Early Christian Thought in the East, 82.

[21]. Philip Schaff, History of the Christian Church, Volume II: Ante-Nicene Christianity. A.D. 100-325, (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, 1882), 512.

[22]. Philip Schaff, History of the Christian Church, Volume II, 512.

[23] . أسد رستم، آباء الكنيسة: القرون الثلاثة الأولى ( لبنان: منشورات النور، 1983)، 166. 

[24] . القمص تادرس يعقوب ملطي، نظرة شاملة لعلم الباترولوجي في الستة قرون الأولى (الأسكندرية: كنيسة مار جرجس باسبورتنج، 2009)، 126.